الأربعاء، أكتوبر 28، 2009

مصر بتاعتهم لـــ د. نبيل فاروق1


مصر بتاعتهم







مصر بتاعتهم «1»

د.نبيل فاروق


تاريخ مصر تاريخ جميل، حافل بالاحتلال والاستعمار، من الهكسوس إلي البيزنطيين، إلي الرومان، والعثمانيين، والفرنسيين، والإنجليز، ثم حركة يوليو....

ومنذ حركة يوليو 1952 بالذات، شهد تاريخ مصر أكبر تحوّل جذري للغاية... ففي كل الحالات السابقة كان المحتلون يأتون من الخارج، وكأي محتل غاصب، كانوا يسعون لكسر إرادة الشعب، وتحطيم مقاومته، وإخضاعه لإرادتهم، وكان هذا يحفز الشعور الوطني في أعماق الجميع، فتحمي الدماء في عروقهم، ويلتهبون حماساً، ويشعرون بمصرهم ومصريتهم، ويقاومون المحتل، ويقاتلون ويضحون ويموتون، حتي تستعيد مصر حريتها وكرامتها... هذا لأنهم كانوا يشعرون، وبقوة، أن مصر مصرهم،كرامتها كرامتهم،وعزتها عزتهم وحريتها حريتهم،ومجدها مجدهم.... كانت مصر، علي الرغم من كل احتلال، حقاً مصرهم...

ثم جاءت حركة يوليو من الداخل، وسيطرت علي البلد، ووضعت كل شيء في قبضتها، وأطلقت عشرات الشعارات الرنانة، عن الحرية والمساواة، وتكاتف قوي الشعب العاملة، والديمقراطية، وبأن مصر، ولأول مرة، يحميها مصريون...وصدَّق الناس.

ومن هنا بدأ العصر المرير ... عصر الاحتلال الداخلي، الذي يأتي فيه الاحتلال من الداخل، ويقوم فيه مصريون باحتلال مصريين، والسعي للسيطرة علي مقاديرهم، وكسر إرادتهم، وسحق حريتهم، وتدمير إحساسهم بمصريتهم....

اعتبرت الحركة أن مصر غنيمة فازوا بها في معركة سهلة قصيرة، خططوا لأن تستمر شهراً، وتنتهي بإعادة محمد نجيب إلي موقعه، فإذا بهم، في يوم وليلة، يمتلكون البلد كله.. وكانت البداية.


====================

مصر بتاعتهم «2»

د.نبيل فاروق


رجال حركة يوليو من أكبرهم إلي أصغرهم، لم يجل بخاطرهم لحظة واحدة، أنهم سيسيطرون علي مقادير بلد كامل، بل لم يستعدوا أبداً لهذا، لكن ضعف رجال الحكم آنذاك، وخضوعهم لذلك الاحتلال الداخلي، ومحاولاتهم الدءوبة لكسب ود من قاموا بالحركة، حرَّكت نوازع القوة والسيطرة في نفوس القائمين بها، أضف إلي هذا لذة السلطة، التي لا تفوقها لذة، كما يؤكد خبراء علم النفس ؛ لأنها تمنح صاحبها بالتبعية كل الملذات والشهوات الأخري، وهذا ما أثبته رجال الحركة وأتباعهم، عندما حوّلوا البلد إلي معتقل كبير، وكمموا الأفواه، وقهروا الإرادة، وعذَّبوا النفوس، وانتهكوا الأعراض، وقطعوا الرءوس، التي طلبوا منها أن ترتفع، بحجة أن عهد الاستبداد قد مضي، وكان في الواقع قد بدأ..

ومع القهر والقمع والطغيان، الذي لم تر مصر مثيلاً له، حتي أيام غزوات التتار، عرف المصريون، ولأول مرة، أن الاحتلال الداخلي أعنف وأشرس وأضل سبيلاً من الاحتلال الخارجي، ففي الأخير، يشعر المصري بشرعية المقاومة، ومع الأوَّل، يتهمونك بالخيانة العظمي،ومحاولة قلب نظام الحكم، إذا ما قاومت.

وأدرك المصريون الحقيقة المرة... أن مصر لم تعد مصرهم... أصبحت مصر ملكاً لمن استولوا علي السلطة فيها بالقوة، والقهر، والقمع والبطش.

أصبحت مصر بتاعتهم... مصر التزوير الانتخابي، والخداع اللفظي والشعاراتي، وأمن القمع والقهر والإرهاب، وخطب الخداع واللف والدوران.... لم تعد مصر للمصريين... أصبحت بتاعتهم.... بتاعة النظام.... ولنا تكملة.


=====================

مصر بتاعتهم «3»

د.نبيل فاروق


تحوَّلت مصر، في العهد الناصري، إلي طغيان جبارة، يحكمها رجال اعتبروها «عزبة أبوهم»، واعتبروا شعبها عبيداً وجواري، خلقوا فقط لخدمتهم، والويل لمن يعترض، أو يتكلم، أو حتي يفكَّر، أو يحلم في سره بالمقاومة....

ولأن الشعب أدرك أن مصر لم تعد له، فقد راح يقاوم السلطة المحتلة بوسائله الضعيفة، التي لم يفهم أحد سببها حينذاك، فصار يتلف كل ما تملكه الحكومة، من الطرق، وحتي مقاعد الأتوبيسات؛ لأن أحداً لم يعلَّمه أن هذا كله مال عام، وأن المال العام ملك له، باعتباره من الشعب، لكنه لم يكن حتي ليصَّدق هذا، لأن حكام الاحتلال صاروا يملكون كل شيء في البلد، وهذا يعني أن المال العام مالهم، وعليه هو أن يحرمهم منه بأي ثمن....

ولأن مصر بتاعتهم، وليست بتاعته، فقد قرَّر أن يلقيها من قلبه إلي ما خلف ظهره، فلم يبال بالعمل، أو الإنتاج، أو التحسين، أو حتي مواعيد العمل الرسمية.....

وهكذا ضعف الإنتاج، وتضاءل الاقتصاد، وظهرت الفجوة، بين المواطن والدولة، وتغيرت المفاهيم، فصار رجال الشرطة هم أعداء الشعب، وليسوا في خدمته، وأصبح أي مسئول في أي منصب هو فرعون زمانه، وأصبح الفساد والتزييف والتزوير والرشوة والمحسوبية، هم أساس التعامل، واتجهنا من سيئ إلي أسوأ، حتي جاء اليوم المشئوم.... يوم السادس من يونيو 1967 ، و..... لنا بقية.


=====================================

مصر بتاعتهم «4»

د.نبيل فاروق

عندما بدأ العدوان الثلاثي علي مصر، عام 1956، كان رجال حركة يوليو يسيطرون علي كل شيء، علي الصحافة والإعلام والرأي، ويخدعون أو يتصورون أنهم يخدعون الشعب، بعباراتهم الفخمة، وكلماتهم البرَّاقة، وكذبهم المكشوف....

ولأن الكذب والبهتان، والتزوير بتاعهم، لا يمكن أن يؤدِّي، إلا إلي ضعف الدولة وعجزها، فقد جاءت إسرائيل، واكتسحت سيناء، وهزمت الجيش المصري شر هزيمة، ولولا الإنذار الأمريكي السوفيتي، لكان الاحتلال الإنجليزي قد عاد مرة أخري إلي أرضنا، بسبب فساد حكامنا....

وعلي الرغم من هذا، وكما احتفل صدام حسين بأم المعارك، احتفلنا نحن بعيد النصر، وكذبنا علي أنفسنا، وكذبوا هم علي شعبهم، وأوهموه بأنهم قد انتصروا ببراعتهم وذكائهم، بل تمت ترقية قائد الجيش المهزوم إلي رتبة المشير، احتفالاً بنصر زائف

ولأن مصر بتاعتهم، لم يفتح أحد فمه، أو يذكر الحقيقة، أو يتساءل عن هذه السابقة المدهشة في التاريخ، حيث ينهزم قائد عسكري، فتتم ترقيتة، ولأن القائد ورجاله، علي الرغم من هذه المظاهرة الكذَّابة، كانوا يعرفون الحقيقة، ويدركون أنهم قد انهزموا شر هزيمة، فقد توترت أعصابهم، وأفرغوا غلهم في شعبهم، الذي رأوا ضحكاته وسمعوا سخرياته، علي الرغم من كل ما فعلته أبواقهم الكاذبة، فازدادوا شراسة وعنفاً، وعاشت البلاد تحت شعار ( لا شيء يعلو فوق صوت المعركة) أسود أيامها وانقهرت الإرادة أكثر وأكثر، والأبواق التي هتفت بنصر زائف، ازدادت نفاقاً ورياءً، وأصبحت مصر بتاعتهم قوي... وسلم لي علي النكسة... و...لسه كتير.


============================

مصر بتاعتهم «5»

د.نبيل فاروق


فجأة وبعد أن أطلقوا علي الهزيمة اسم الدلع (نكسة)، وبعد أن رقص عضو مجلس أمة محترم؛ لأن جمال عبد الناصر قرًَّر العودة إلي الحكم، وبعد قهر وطغيان واستبداد فوجئت مصر كلها ذات ليلة، بنائب الرئيس آنذاك - أنور السادات- يخبر الأمة وينعي إليها زعيمها، جمال.

مات جمال، وجاء أنور السادات من بعده، وهو يدرك كم الفساد الرهيب، الذي تعانيه الدولة، ولكن قبضته كانت أقوي بطبيعة الحال، بعد تصفية عبد الحكيم عامر، وانكسار الجيش عقب الهزيمة، وحالة الضياع التي يعانيها الشعب، ويحلم فيها بيد تنتشله من ذلك المستنقع.

جاء السادات، وحوله جبابرة مصر، وقادة كل مراكزها الحيوية، وكلهم يعتبرونه مجرًّد خيال مآتة، يجلس علي مقعد المواجهة فحسب، في حين يحكمون هم ويتحكمون كما اعتادوا.

وفي ليلة واحدة، فاجأ السادات الكل بأنه ثعلب، أكثر مما كانوا يتصوَّرون، وجمع كل هؤلاء في سلة واحدة، وخلَّص البلاد منهم، وأعلن أنه يبدأ عصر جديد....

وهللَّ الشعب الطيب الغلبان، وتصوَّر أن مصر قد عادت إليه، وشاهد السادات يهدم المعتقلات، ويحرق أشرطة التسجيل، ويحارب الفاسدين، ويطلق الحريات، ويخطط للبناء.

وانتشي الشعب وصدَّق لطيبة قلبه أن الحداية بتحدَّف كتاكيت، وأن مصر ستعود مرة أخري للمصريين، خاصة أن سنوات حكم السادات الأولي أوحت بذلك كثيراً، و....خليكوا معانا.


============================

مصر بتاعتهم «6»

د.نبيل فاروق


فترة حكم السادات الأولي، أثبتت أين تكمن قوة المصريين بالضبط، فما إن أشعرهم السادات بالأمان، وبأن مصر هي مصرهم، وليست مصر المحتلين الداخليين، حتي عملوا كالأسود، وأعادوا بناء قوتهم، وخاضوا حرب أكتوبر 1973 بقوة ارعبت عدوهم، وحقَّقت لهم نصراً عظيماً، وعبوراً مدهشاً، وخفقت قلوب المصريين مع علمهم، الذي رأوه يرتفع ولأوَّل مرة، خفاقاً بنصر حقيقي، يحاول البعض تشويهه الآن، كجزء من حالة الغضب الحالية، وهم لا يدركون أنهم بتشويهه، يحكمون علي أنفسهم بعار ما بعده عار....

وارتفعت أعلام النصر خفَّاقة في مصر، وعاش المصريون أعظم لحظات حياتهم، وهم يهللون للنصر، ويحتفلون بتولية وترقية أول قائد منتصر حقيقي لرتبة المشير، وشعر كل رجل وامرأة وطفل في مصر، بأن مصر وطنه وبلده، وبتاعته ....

ولكن، ولأن كل هذا يتم بالإرادة السامية وحدها، ولأنه لا يوجد دستور حريات حقيقي، أو نظام قانوني قوي، يحقَّق الأمن والحرية والاستقرار للبلاد والعباد، ولأن النظام منذ حركة يوليو أصبح فرعونياً، إرادة الحاكم فوق إرادة كل قانون، فقد أفلتت أعصاب من منح في النهاية، ولم يحتمل تبعات ما منحه، فقرر أن ينتقل من المنح إلي المنع .....

لذا،الأمر لم يكن سهلاً إلي هذا الحد؛ فقد يدوم نظام مستبد لسنوات وسنوات، لكن ما إن تلوح لمحة للخلاص منه، وينتعش الأمل بهذا في النفوس، حتي يصير من المستحيل وشديد الخطر، أن يفكر حتي من منحوا تلك اللمحة، في التراجع عنها.... لذا، فما إن ثار السادات، وفقد أعصابه، وفتح أكبر حملة اعتقالات في التاريخ، حتي لاحت النهاية .... وقد كان.


============================

مصر بتاعتهم «7»

د.نبيل فاروق


في يوم احتفاله بانتصاره، ووسط جيشه وقواته وحراسه، وكل نظم أمنه... تم اغتيال أنور السادات.

سيل الاتهامات انهال من كل صوب، والكل راح يتهم الكل، حتي من يستحيل اتهامهم، ولكن وأياً كانت الحقيقة، فقد انتهي عصر السادات، بكل محاسنه ومساوئه، وكل انتصاراته وتراجعاته، وكل حريته وفرعونيته، وحربه وسلامه، وبدأ عصر جديد في مصر.

عصر كانت بدايته- التي لم تصل إلي نهاية أبداً- هي قانون طوارئ ممتد مستمر، يتجدَّد تلقائياً، ويبلغ المصريين بوضوح وصراحة، ومع استبداد الأمر وهيمنته وسيطرته، أن مصر عادت إلي المحتلين، ولم تعد مصر بتاعته.. بل صارت، وعلي نحو واضح صريح، وبجح أحياناً.. مصر بتاعتهم.

غرق الشعب كله في عصر، جعلهم يترحمون فيه، كل صباح ومساء، وعبر صلواتهم الخمسة، علي عصري عبد الناصر والسادات، وربما حتي علي عصر الاحتلال البريطاني.

عند بداية هذا العصر، استبشر الشعب خيراً بقائده الجديد، بخاصة أنه قد بدأ عهده بقرار الإفراج عن جميع المعتقلين، الذين كان اعتقالهم أحد أهم أسباب اغتيال سلفه، الذي انتقاه من بين جميع من حوله، ليسلمه الأمانة، ويضع بين يديه، وفي عقله وضميره، مستقبل شعب عظيم.....

البداية كانت رائعة، ولكن أيضاً بدون الدعامات الرئيسية لأي حكم صحيح.... بدون حريات، وضمانات، وضوابط، وقانون..... والتقيل جاي....


============================

مصر بتاعتهم «8»

د.نبيل فاروق


بدأ عصر مبارك بداية عنيفة للغاية، وربما أعنف بكثير مما بدأت به حركة يوليو عصرها، فقد كانت البداية هي اغتيال أنور السادات، وانطلاق الجماعات الإسلامية، في محاولة لاستغلال حالة الاضطراب التي سادت مصر عقب الاغتيال؛ للسيطرة علي الشارع المصري، وإسقاط الحكومة، مما استتبع عدة إجراءات عنيفة؛ للسيطرة علي الموقف، ونقل السلطة الشرعية، دون إراقة أنهار من الدم، أو دون الدخول في حرب أهلية مدمَّرة.....

ومن هنا كان قانون الطوارئ اللعين، الذي كتم أنفاسنا، ووصم عصراً بكامله بوصمة قد لا يدركها أصحابها الآن؛ لأنهم في غيِّهم يعمهون، لكنه سيكون وصمة عار لعصر بكامله، يتغني ليلاً نهارًا بسيادة القانون، وهو يحيا لثلاثة عقود كاملة، في ظل قانون طوارئ....

وعلي الرغم من تلك البداية العنيفة، فقد كان عصر مبارك في بداياته يبشر بالخير ، إذ بدا الرئيس رجلاً بسيطاً، هادئاً، يتروي جيداً، قبل اتخاذ قراراته، وكان قريباً من الناس، حتي إنه ظهر ذات مرة مع المذيعة نجوي إبراهيم، في برنامج «فكَّر ثواني واكسب دقايق»، ولبَّي طلب مواطن مصري بسيط، وذهب لزيارته، ونام الناس وفي بطونهم شادر بطيخ صيفي أحمر عالسكين، متصوِّرين أنهم سيعيشون عصرهم الذهبي في ظل رئيس لم يتعال عن زيارة مواطن بسيط في بيته، تلبية لرغبته، علي الرغم من أن قبول الرئيس لدعوة مواطن له لحضور حفل زفافه، قد تحوّلت فيما بعد، إلي فيلم كوميدي.....

ثم بدأت الصورة تتخذ شكلاً جديداً، مع بداية عصر عنف الجماعات الإسلامية، ولجوئها إلي الرصاص، لفرض فكرها ووصايتها علي المجتمع، وعصر الظلام، المتمثِّل في سيطرة الفكر الوهابي السلفي علي الشارع المصري..... وللحديث بقية.


============================

مصر بتاعتهم «9»

د.نبيل فاروق


المتابع غير المتحيِّز لعصر مبارك، يلاحظ الأخطاء العديدة، التي شابت التجربة من بدايتها، بدءاً من تولي الرئيس رياسة أحد الأحزاب في الدولة، في حين المفترض أنه رئيس لكل الأحزاب، وليس رئيساً لحزب واحد، والقول بأن هذا يحدث في بعض النظم الديمقراطية، فهو قولة حق يراد بها باطل ؛ ببساطة لأن النظام لدينا ليس نظاماً ديمقراطياً، بل هو نظام أبوي، لو ترك فيه الرئيس حزباً، وانتقل إلي آخر، ستنهال الاستقالات علي الحزب القديم، وتنهال بنفس عددها طلبات التحاق بالحزب الجديد، وهذا ماحدث بالفعل، في عصر السادات، وهو نظام سيادي مائة في المائة، بدليل أن مجلس الشعب، المنتخب بالوسيلة التي نعرفها كلنا، والذي لم يتغير رئيسه منذ الأزل، يجتمع، ويتظاهر بدراسة القوانين، التي تطلبها الحكومة ؛ لضمان السيطرة علي الشعب، ويوافق عليها في جلسة أو جلستين، في حين يقضي سنوات في تأجيل عرض قوانين أخري، تؤثر في مسار أمة كاملة ؛ لأن الحكومة لم تتقدَّم بها، أو لأن الذي تقدَّم بها نائب معارض، أو لأنها لن تؤدي إلي السيطرة علي الناس، وسلب مافي جيوبهم. ....

المهم أن التجربة بدأت بخطأ مهم وجوهري، وخطأ بالغ الخطورة، ألا وهو قانون الطوارئ ؛ فالحكومة نفسها تعلم أن رجال أمنها ليسوا ملائكة، بل هم مصريون يعانون عقدة السطوة، وسادية السيطرة، وإذا ما وضعت في أيديهم قانون طوارئ، دون مواد تحتم الحفاظ علي كرامة وآدمية وحرية المواطن، وتحاسب بشدة علي المساس بها، فهم سيتكبرون ويتجبرون، وسيصبحون شوكة مؤلمة في ظهر الشعب، الذي لن يبغضهم ويعتبرهم وحدهم أعداء، بل ستمتد كراهيته، وعلي نحو تلقائي وطبيعي ،إلي النظام نفسه، بحيث سيشعر مع مرور الوقت، أن مصر بتاعتهم، وليست مصره هو، وبمعني غير معلن، أنهم كنظام قد احتلوا البلد. ... ومازال للحديث بقية.


============================

مصر بتاعتهم «10»

د.نبيل فاروق


مع بدايات عصر مبارك، وعلي الرغم من قانون الطوارئ، ومن حالة التجبَّر التي رافقها، أو ربما بسببه، شهدت مصر أعنف مرحلة عدوانية عقائدية، ربما في تاريخها كله.

اغتالوا رفعت المحجوب، وكان رئيساً لمجلس الشعب، وحاولوا اغتيال صفوت الشريف، وكان وزيراً للإعلام، وكمنوا للأفواج السياحية، في محاولة لقتل السياح، عقاباً لهم علي دخول مصر، التي يفترض أن يدخلوها بسلام آمنين، واشتعلت الأمور، حتي إن الأمن رفع حالة الطوارئ أكثر، وهو الإجراء الوحيد الذي يجيده ويلجأ إليه أي نظام مستبد، فانتقلت الجماعات الإسلامية إلي موجة اغتيال رجال الشرطة، ومباحث أمن الدولة، فرفعت الدولة حالة التحفَّز أكثر وأكثر، وصار الصراع بينها وبين الجماعات الإسلامية يتخذ صورة حرب شعواء، وقرأنا في الشوارع والطرقات شعار ( قتيل بقتيل )، واتخذ الشعب العادي جنباً، وبدأ يعتبر الحكومة، متمثلة في رجال أمنها، حكومة احتلال طاغية، فابتعد عن الساحة كلية، واكتفي بالسعي خلف لقمة عيشه، وبسب ولعن النظام ليل نهار، وبداخله شعور جارف بأن كل هذا عديم الجدوي؛ لأن مصر ليست له.....

مصر بتاعتهم..... بتاعة النظام..... وأعوانه......ومع هذه الموجة الأمنية، التي تجاهلت تماماً حقوق الإنسان، وحتي الحيوان، ولم تعد تبالي إلا بفرض إرادتها وسيطرتها علي كل شيء وأي شيء، لم يعد المواطن العادي يشعر بالأمن أو الأمان، وانشغلت كل أجهزة الدولة بمكافحة الإرهاب الداخلي كما سموه، وتجاهلت وظائفها الأصلية كحامية للشعب، وتحوّلت من حاميها إلي حراميها، وطمحت في المزيد والمزيد من السطوة.

وكان من الطبيعي والحال هكذا، أن يلتف الامن بكل أجهزته حول الرئيس، وأن يحيطه بسياج حديدي، ليس لحمايته بالدرجة الأولي، وإنما لعزله عن شعبه، وإخافته منه، ومنع وصول شكواه إليه .... والحديث مستمر.


============================

مصر بتاعتهم «11»

د.نبيل فاروق


»مع السياج الأمني القوي، الذي أحاط بالرئيس، كان من الطبيعي أن ينتابه شعور بأنه يحكم شعباً من الأعداء، كلهم يتربصون به، ويسعون خلفه، ويضمرون له الشر، وساعد الأمن علي تضخيم هذا الشعور، وضاعف من إجراءات حماية الرئيس، إلي حد المبالغة المقززَّة، إن جاز القول، وصارت تحركاته من أعقد الأمور، التي يبغضها المواطن العادي كل البغض، لما تسببه له من ارتباك في حياته، ومتطلباته، واحتياجاته، وتجور علي بلد كامل، من أجل الهوس الزائد عن اللزوم جداً؛ لحماية، أو التظاهر بحماية رجل واحد، كما يقول بروس شناير، الخبير الأمني العالمي، والذي يصف ما يحدث بأنه استعراض أمني، يستهدف به الأمن إرهاب المواطن بالدرجة الأولي، وإثبات القوة أمام القيادة السياسية، المتمثلة في الرئيس، بالدرجة الأولي ممتازة تكييف وفيديو كمان.

ثم تآزرت أجهزة الدولة كلها، لتنافق الرئيس، وتفخَّم من ذاته، وتقنعه بأنه أحكم وأعدل وأرجح وأعظم وأعقل من حكم مصر، وأنه ما ينطق إلا درراً، وما يأمر إلا عدلاً، وما يفكَّر إلا صواباً، وربما لأن هذا سيجلب عليهم سخطاً شديداً، فقد أحجموا عن وصفه بالنبوة والعياذ بالله.

وفي نفس الوقت، الذي كان الكل منشغلاً فيه بالأمن السياسي، وبحماية الرئيس وحده، صارت الدولة بلا حماية، وبدأ الفساد ينمو فيها، كرد فعل طبيعي.

ولهذا قصة


============================

مصر بتاعتهم «12»

د.نبيل فاروق


يقول العامة، في أحاديثهم اليومية، إن كبار رجال الدولة يسعون لنشر الفساد في البلاد، حتي يصبح الشعب كله فاسداً، فلا يقف أمامهم أحد عندما يفسدون ؛ لأن الفاسد لن يحاسب فاسدين أو مرتشين....

الناس يرددون هذا الكلام في الشارع ؛ لأنهم لا يستطيعون تصديق موجة الفساد الرهيبة، التي سادت البلاد في هذا العصر، كما لم تسد في أي عصر آخر، إلا إذا كان وراءها كبار البلد، الذين اعتبر الناس أن مصر بتاعتهم، وأنهم يمتلكونها، بكل ما عليها ومن عليها.

والواقع أن الفساد الرهيب، الذي يمتد من القمة إلي القاع، سار سمة سيتندر بها التاريخ عن هذا العصر، الذي يتحدثون فيه طوال الوقت عن الشفافية وطهارة اليد، التي تستحق قطعها، وحرقها، وكنس تراب الشارع بها، بعد أن أطلقت موجة فساد، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وصلت مع مرور الوقت، والانعدام التام للشفافية والحقيقة، إلي موجة وقحة، بجحة، لا تراعي حتي المظاهر، ولا تحاول مداراته خلف واجهة أنيقة، لأن فئة الكبار نفسها صارت واثقة من أن مصر بتاعتهم، مش بتاعة الشعب، الذي هو في نظرهم مجرَّد مظهر شيك للحكم، وإرادة يستطيعون تزييفها، بالقهر والقمع وقانون الطوارئ، وخدمه أيضاً إذا استلزم الأمر.

ولقد بدأ الفساد حذراً، مستتراً وراء شعارات زائفة، كما يحدث في كل النظم الفاشية أو القمعية، ثم أدرك بعد وهلة، أن أحداً لن يحاسبه، مادام الكل منشغلاً بدولة الرجل الواحد، التي تجند كل الجهود فيها لحماية رجل واحد، فانطلق.. وللقصة بقية.


============================

مصر بتاعتهم «13»

د.نبيل فاروق


غياب الحرية والديمقراطية الحقيقية، في هذا العصر، وتحويل البلد إلي دولة مماليك، كل مملوك منهم يحظي بحماية واحد من الأكابر، أدي إلي حتمية وجود سياسة خاصة، تستلزم تدليع هؤلاء المماليك ؛ لضمان ولائهم للنظام، وهذا التدليع يشمل إغداق العطايا والثنايا، ومنح التصاريح والموافقات، وغض البصر أيضاً عن بعض التجاوزات البسيطة، مثل غرق العبَّارات، وفشل المونديالات، وسرقة المال العام، وفساد الذمم، وغيرها.

وهكذا، وكرد فعل طبيعي، تحوَّلت الدولة إلي إقطاعيات كبيرة، يحكم كل منها مملوك من مماليك النظام، يدرك جيداً أن النظام، والنظام وحده هو الذي يضعه في مكانه، إذا كان من المؤيدين، والموالين له ولاء كاملاً، وعضواً في حزبه، وهو وحده الذي يغدق عليه بلا حساب، من أموال الشعب، وهو وحده أيضاً الذي سيرفعه من منصبه، إذا ما غضب عليه يوماً.

فلماذا إذن يبالي بالشعب، في رواحه أو غدوه؟!

إنه مملوك للنظام، وليس للشعب، ومهمته، لكي يحافظ علي إقطاعيته، أن يضع رأسه في الطين كل يوم، وهو يلعق نعل حذاء النظام، وينافقه في كل صباح ومساء، ثم، وبسبب هذا، يضع جزمته علي رقبة الشعب، ويغرس رأسه في طين المذلة والفقر والحاجة، دون أن يطرف له جفن.. لأنه مملوك.

ولقد بدأت لعبة المماليك هذه معقولة، ومع أبدية النظام صارت قوية عنيفة، وصار من الواضح أنك كشعب، لم يعد لك مكان في مصر، لأن مصر بتاعتهم.. مش بتاعتك.. ولنا تكملة.


============================

مصر بتاعتهم «14»

د.نبيل فاروق


منذ قيام حركة يوليو، شهدت مصر ما يسمي بالفئات غير الخاضعة للمساءلة، وعلي الرغم من أن كل النظم التي تعاقبت علي حكم مصر، منذ ذلك الحين، وحتي لحظة كتابة هذه السطور، تتغني بالحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، فإن مصر لم تشهد، منذ 23 يوليو 1952م، لا حرية، ولا ديمقراطية، ولا حتي رعاية اجتماعية صحيحة عاقلة.

في البداية كان رجال الحركة، وأتباعهم، ومريدوهم، وأحبابهم، وأصحابهم، وحتي عشيقاتهم، من الفئات المصنفة بأنها فوق المساءلة، ثم جاء عصر سيادة القانون كما سموه، وتقلَّصت قليلاً في بدايته، الفئات غير الخاضعة للمساءلة، ثم عادت الأمور إلي مجراها، وصارت هناك فئات محدودة فوق المساءلة.

حتي جاء عصر مبارك، عصر استقرار الفاسدين في مقاعدهم، واستمرار المتجاوزين في مقاعدهم، وتشبث النظام بالسلطة، علي حساب أي شيء آخر.

جاء عصر المماليك، الذين أصبحوا جميعهم فوق المساءلة، ولم يعد من الممكن، ليس محاسبة المسئول الفاسد، بل مجرَّد توجيه أصابع الاتهام إليه ..... لأنه مملوك، أو يتبع أحد المماليك، والمماليك كلهم، عن دبرة أبيهم فوق المساءلة.

ولأن فئات كثيرة قد اندرجت تحت بند عدم المساءلة، فكان من الطبيعي أن تشهد مصر أكبر عصور الفساد في تاريخها كله، حيث لم يعد الفساد مقصوراً علي الصغار، وإنما صار لعبة الكبار، الذين يحتلون أرفع وأدق المناصب، ويملكون اتخاذ القرارات، المؤثرة في اقتصاد وحياة شعب ووطن وأمة بأكملها.

ونماذج الفساد لا حصر لها، والدولة والنظام يعرفونها جيداً، لكن في عصر المماليك، صار الكبار أشبه بتنظيم إجرامي، منهم بحكامه، و....ومازال لنا بقية.


============================

مصر بتاعتهم «15»

د.نبيل فاروق


تجار المخدرات الكبار يلعبون لعبة مدهشة، يسمونها لعبة توازن الصراع، حيث يقومون بعمليات تهريب كبيرة، يربحون منها المليارات، ثم يلقون بعض صغار رجالهم في عملية أو عمليتين، بعدد قليل من الملايين، ويرشدون عنهم رجال شرطة مكافحة المخدرات، لكي يتم إلقاء القبض عليهم، ويشعر رجال المكافحة بالارتياح، فتستمر اللعبة.

وهذا بالضبط ما يلعبه نظام المماليك الحالي ... الفساد يستشري في كل المجالات، وأراضي الدولة ومصانعها وشركاتها تباع بربع ثمنها، ومن يبلِّغ عن هذا يعاقب بشدة، وتضيع علي مصر مليارات، بسبب فئات غير خاضعة للمساءلة، ثم يلقي لنا النظام، كل حين وآخر برجال من قعر اللعبة، أو ممن غضب عليهم، في قضية فساد تتناولها الصحف، وتهلَّل لها، ويثبتون بها للرئيس أنهم في قمة الشرف والنزاهة، وتدور لعبة توازن الصراع.

ويستمر الفساد، ويستمر نهب الوطن، ويثور كل من يوجَّه إليه أي اتهام، باعتبار أن مصر هذه ليست مصرنا، ومن حقنا محاسبة من ينهبها، بل هي مصر بتاعتهم .... عزبة أبوهم ... يفعلون بها ما يشاءون، ويبيعون ثرواتها كما يريدون، ويستولون أيضاً علي مالها وقتما يحبون.

كل هذا لأن من فوق المساءلة، صاروا أكثر مما ينبغي ... جهات سيادية، ورجال أمن، وقضاء، وسلطة، وحزب، وحتي نساء فراش وأناس سيَّئوا السمعة... ليس المهم من هم ... المهم أن ينطوي أحدهم تحت راية أحد المماليك ... والحديث مستمر .


============================

مصر بتاعتهم «16»

د.نبيل فاروق


في هذا العصر، تضاعفت أعداد المنافقين والمرائين، أكثر من ألف مرة، بعد أن أصبح النفاق هو الأسلوب الأمثل للصعود إلي القمة، والانضمام إلي الفئات المحصَّنة، ودخول قائمة مَنْ فوق المساءلة، والانطلاق كالفرس الرهوان، في عالم الفساد .

يكفي أن تكون من مليونيرات هذا الزمن، وأن تنضم إلي الحزب الوطني، لينفتح لك باب الفساد علي مصراعيه، ولتجد كل قيادات البلد قد تحوَّلت إلي هيئة دفاع قوية عنك، وعباقرة القانون منهم إلي جوارك، يساندونك، أو حتي يصدرون قوانين خاصة لك ؛حتي تخرج من محنتك ...

ولعبة القانون هذه هي لعبة شياطين نظام هذا العصر، فمادام النظام يحميهم، ورجال مجلس الشعب لا يربحون إلا بتزويرهم، وماداموا حزب الأغلبية بالعافية كما يدَّعون، فلماذا يحارون؟! يمكنهم أن يستعينوا بشياطينهم، ويبتكروا قوانين جديدة، يوافق عليها المجلس العظيم بالنظام الديمقراطي المعروف بموافقون.. موافقة، ثم تصدر القوانين، التي تذبح الديمقراطية، وباسم الديمقراطية ...

لعبة، يطلقون عليها اسم ديكتاتورية الأغلبية ... وياليتها حتي أغلبية حقيقية .. إننا نتحداهم كشعب، أن يجروا انتخابات قادمة، تحت إشراف دولي، وهم طبعاً سيرفضون، لأنهم سيخسرون خسارة فادحة، وسيحاكمون بعدها علي ما اقترفوه في حق هذا الوطن، لو تمت الانتخابات دون قمع وقهر وتزوير وتزييف، ولكنهم سيغلفون رفضهم هذا بإطار زائف من الحماس والوطنية المرسومة، وسيربطون هذا بسيادة مصر، وقرارها، ولن يخيل هذا علي مواطن واحد، لأننا نعرفهم جيداً ... ومازال للحديث بقية.


============================

مصر بتاعتهم «17»

د.نبيل فاروق


لأن النظام يدرك أنه نظام ديكتاتوري بحت، وأنه لا وجود قط للديمقراطية الحقيقية، وأنه يعتمد اعتماداً تاماً وكاملاً علي الأمن وحده، فهو حتماً سيقاوم أي انتخابات، تحوي ضمانات حقيقية لعدم التزوير أو التزييف، أو تدخَّل رجال الشرطة، لمنع أي مواطن من الإدلاء بصوته، اللهم إلا إذا كان من حاملي كارنيه الحزب الوطني....

النظام سيقاوم أي انتخابات نظيفة، سواء كانت انتخابات مجالس محلية، أو مجلسي الشعب والشوري، أو انتخابات رئاسة الجمهورية بالطبع، والتي يستحيل أن يسمحوا فيها بأي رقابة خارجية؛ حتي لا يطير الدخان....

وفي كثير من الأحيان نتساءل: هل يعلم مبارك حقاً بما يدور من حوله في زمن حكمه، أم إن تلك الأسوار الفولاذية العالية، التي أحاطوه بها، قد حجبته عن شعبه، فلم يعد يدري بما يحدث خارج الأسوار، ولم يعد يدرك إلا ما يريدونه أو يدركه.....

قديماً قالوا: لو كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم..... والسؤال: هل يدري أو لا يدري؟!...

كل رئيس في كل دولة، لديه وسائل قوية؛ لمعرفة ما يدور في الشارع، لو أنه أراد هذا.... لديه أجهزة المخابرات التابعة له وحده، والتي يمكنها الاتصال به مباشرة، والحصول علي تكاليف شخصية منه، يمكن ألا يدرك بها أي مخلوق آخر....

لكن هذا يعيدنا إلي عبارة مهمة، في الفقرة السابقة..( لو أراد )....

السؤال التالي إذن هو: هل يريد؟!..

لقد كان النظام كله يسير علي نحو جيد إلي حد ما، حتي قضي الرئيس السوري نحبه، ووضع ابنه مكانه.... وتغيرَّت الصورة.


============================

مصر بتاعتهم «18»

د.نبيل فاروق


المشير عبدالحكيم عامر من رجال حركة يوليو الأوائل، كان صعيدياً شهماً، ولأنه صعيدي شهم، فقد كان يري ضرورة حماية رجاله، والذود عنهم ضد أي أتهام، حتي لو كانوا من أفسد الفاسدين، وكان السؤال المطروح في ذلك الحين: هل من حق من يقود أمة، أن يتعامل كصعيدي شهم، أم كقائد؟!.. هل يدافع عن رجاله، أم يذود عن وطنه؟!.. المشير عبد الحكيم عامر اختار الحالة الأولي، فدافع عن رجاله، وهم يفسدون وطنه، فكانت نهايته ونهاية الوطن علي يديه سوداء، والآن، عندما يؤرخون لنكسة يونيو، فهم يعتبرونه خائناً، وليس شهماً، لأنه أضاع خيرة شباب مصر، فقط ليحمي الفاسدين من رجاله..

وفي هذا العصر يحمي، النظام رجاله، من القمة إلي القاع، متصوَّراً أن هذا سيمنحه القوة، لأن هؤلاء الفاسدين سيدينون له بالولاء، وسيكونون عونه وسنده، إذا ما جد الجد، أو أنهم سيمنعون انقلاب الأمور عليه، علي أقل تقدير، ولكن مشكلة الفاسدين، في كل العصور، أنهم مثل فئران السفينة.. أوَّل من يفر منها ،إذا ما تعرَّضت للغرق.. والفئران أبداً لم تنقذ قبطانًا يغرق..

ولقد تغيرَّت سياسة النظام تماماً، وربما كل الأنظمة المحيطة، منذ سنّ حافظ الأسد تلك السنة السيئة، ووضع ابنه ووريثه علي مقعد السلطة، قبل أن يذهب إلي ربه، ليحاسبه علي ما اقترفت يداه..

فمنذ ذلك الحين، انزرعت الفكرة في رءوس الجميع، كل واحد منهم صار يحلم بأن يكون ملكاً وليس رئيساً.. ملكاً يجلس علي مقعد السلطة، ثم يموت ليرثه الأمير، ومن بعده نسله، حتي تقوم ثورة، تطيح برأس آخرهم، وتنتهي مرحلة سوداء.. والنظام، مهما فعل، لن يمكنه أن ينكر، أو حتي يستنكر أنه دخل لعبة التوريث.. ابقوا معنا.


============================

مصر بتاعتهم «19»

د.نبيل فاروق


فجأة، وجدنا كل أجهزة الدولة تعمل في نشاط، من أجل هدف واحد، يحاول الكل إنكاره، وإثبات أنه ليس حقيقياً، وتؤكد كل لمحة من الإعلام أو السياسة، أو لجنة السياسات، أنه حقيقة لا شك فيها.. حقيقة التمهيد لتوريث الحكم إلي الوريث غير الشرعي لمصر.. الوريث الذي لم يتعامل مع شعب مصر، إلا من خلال المليونيرات ورجال السياسة والمنافقين، والطامعين.. هذا الوريث تعمل كل أجهزة الدولة، في أكبر منظومة خيانة عرفها التاريخ؛ لكي تضعه في مقعد السلطة، خلفاً لأبيه..

ومهما أنكروا، واستنكروا، وكَّذبوا، وأكَّدوا، فإن كل مواطن بسيط في مصر، يدرك جيداً أن الجميع يسعي لتوريث السلطة، علي نحو يجعل مصر ملكية، ترفع علم الجمهورية... ملكية نتوارث فيها السلطة، من معاوية بن أبي سفيان إلي يزيد، وربما إلي عبد الحكم أيضاً..

وما أشبه اليوم بالأمس.. وما أكثر اختلاف اليوم عن الأمس أيضاً.. فالنظام؛ لأنه ستيناتي ديناصوري، مازال يؤمن بما لم يعد يناسب العصر، وإنما بما يناسب شيخوخته، فهو يتصوَّر أنه بلطجي المنطقة، وأنه سيفرض ما يريد علي كل من يريد، وسيسيطر علي وطن كامل، فقط لأنه يمتلك أمن الدولة، والمحاكم العسكرية، وشياطين القوانين سيئة السمعة... ولكن كان غيره أشطر...

الفساد نفسه، الذي يغذيه النظام ويقويه، سيكون هو السبب في انهياره، وضياع خطته، وربما الإطاحة برأسه أيضاً... هكذا علمنا التاريخ، الذي لا يقرأونه؛ لأنه لا حاجة لهم بقراءته، ماداموا في عزبة مصر.. بتاعتهم.. ولنا بقية.


============================

مصر بتاعتهم «20»

د.نبيل فاروق


الفساد في هذا العصر الديناصوري الستيناتي المملوكي، لم يتخذ صورة الاستيلاء علي المال وحده، وإنما تشكَّل في كل الصور، التي نعرفها، والتي يمكننا حتي تخيُّلها، ومن أبسطها الفساد الإداري، الذي اتبع السياسة نفسها ... سياسة المماليك ... سياسة أن كل مسئول، يضعونه علي مقعد السلطة، أية سلطة، يعتبر أنه، مادام عضواً في الحزب الوطني، فالمكان الذي يرأسه هو عزبة أبوه وإللي جابوه، يفعل فيه وبه ما يشاء، بغض النظر عن الدستور والقوانين والشعب والوطن؛ فماذا يمثل له الشعب والوطن .... النظام سيحميه، والنظام عيَّنه في مكانه، وهو وحده يملك محاسبته، أو عزله، ولا شأن للشعب أو الوطن بهذا، فلماذا يبالي بهما، أو يقلق بشأنهما.

المهم أن يرضي النظام .... نظام مصر، وهي ليست مصرنا، التي كنا نتغني بها قديماً؛ لأننا كنا نراها مصرنا، ولكننا نعلم الآن أنها مصرهم ... نهبوها، واحتلوها، وسرقوا خيراتها، وسيطروا علي إرادتها، وباعوا أرضها ومصانعها وشركاتها وغازها لكل من هبَّ ودبَّ، ثم لم يكتفوا بذلك، وإنما استولوا علي ما باعوه أيضاً، أو شاركوا في الاستيلاء عليه.

وزير مالية النظام سألوه عن عدة مليارات، فثار وهاج وغضب، واعتبر الأمر إهانة شخصية، علي الرغم من أنه أمين صندوق مصر، وإذا ما اتهمناه بفقد مائة جنيه، فالمفترض أن يصاب بالقلق، ويحاول إثبات براءته وتبرئة ذمته، ولكن ولأنه وزير في عهد مبارك، فقد اعتبر أنه من التجاوز سؤاله عن مال مصر، من شعب مصر، لأن مصر ليست ملك شعبها، إنها مصر بتاعتهم ... مصر السادة، وليست مصر العبيد

فكيف يسأله العبيد .... للأسف، مازال هناك الكثير.


============================

مصر بتاعتهم «21»

د.نبيل فاروق


من أهم سمات فساد عصر العزب والمماليك، أنه عصر بلطجة، سواء بلطجة مباشرة، أو غير مباشرة، وهو

عصر عار قانون الطوارئ، وغياب قانون الحقوق وسريان مبدأ القرارات الإدارية، التي تحكم كل شيء، وتخالف كل القوانين، وتعتبر المواطن المصري مواطنًا من الدرجة الثالثة غير السياحية....

كل مسئول في موقعه يعتبر نفسه ناظر عزبة بلا صاحب، ويدرك أن هناك نظامًا فاسدًا خلفه يحميه، وهناك حجة الإرهاب، التي لعب عليها بوش، واتبعته كل النظم المحبة والعاشقة للديكتاتورية وحكم الفرد، لذا فهو يصدر قرارات تحد من حرية المواطن وتقهر مصريته علي أرض وطنه، كما لو كان مواطناً من دولة أخري، ولا يملك حتي تأشيرة إقامة....

حتي تاريخنا، أصدروا قرارات إدارية وسيادية (بمعني احتلالية)، بحرماننا منه، ففي عهد مبارك، أصبح المصريون ممنوعين من دخول معظم الأماكن الأثرية، ويعاملون كمجرمين، عند محاولة دخولهم لها، وحتي المتحف المصري، صار من المهين أن تدخله وأنت مصري، إذ سيستوقفك رجل أمن صغير الشأن، ضئيل الثقافة، منعدم الفكر، ليسألك أمام عائلتك، وبشكل مستفز للغاية، عن سبب زيارتك لمتحف آثار وطنك، باعتبار أن الزيارة الثقافية، أمر غير مقبول، في نظر حكام الثانوية العامة، بمجموع معهد إعدام الفنيين السياسيين بالعافية...

في ظل نظام مبارك، أصبح الأمن هو الحاكم الفعلي للبلاد، وهو صاحب الكلمة العليا والأخيرة، في كل شيء، بدءاً من الفن ورقابته، وحتي الترشيح لمجلس الشعب، الذي يفترض، في النظم الديمقراطية الحقيقية، أنه رقيب علي الأمن نفسه....

في عصر مبارك، صارت لنا شبه حرية أن نتكَّلم، ونكتب، ونصرخ، وننتحب، وما من مجيب..... أرجوكم...... ابكوا معنا.


============================

مصر بتاعتهم «22»

د.نبيل فاروق


عندما يبدأ الحديث عن مصر مبارك، أو عن مصر عصر مبارك، يصعب أن تجد نقطة يمكن التوقَّف عندها، فكل ما حولك يغريك بالكتابة عن فساد هذا العصر وتجاوزاته، وكل لحظة تعيشها فيه، تدرك كم هو عصر فاسد، زائف، قمعي، فاشي، فارغ الفكر والموقف، منعدم الكرامة الوطنية، غير أمين علي وطن بأكمله، فقط ليحمي فساد شرذمة، لن يمضي الكثير، قبل أن تدفع لهذا الشعب ثمن جرمها وفسادها وخيانتها.

ولكن، ولأن الحديث غير مجد، في هذا العصر، الذي يتكلمون وحدهم فيه، ولا يسمعون أحداً، فلابد من نقطة، يحسن التوقَّف عندها.

نقطة نهاية سلسلة من المقالات، وبداية نهاية نظام.

وكل ما يمكنني أن أنهي به الحديث هنا، هو تلك العبارة، التي أصبحت مثالاً للفساد، من كثرة ما نهب بسببها من أموال المعونات الأجنبية المستباحة.

عبارة (انظر حولك).

انظر، وستري فساد هذا العصر في كل مكان حولك .... في فساد الشوارع، والحكومة، ورجال الأمن، والسياسيين، وحتي كبار رجال النظام.

انظر حولك، وستري كم ينهبونك، ويستولون علي خيرات عزبة أبوهم الصامدة، التي تحمل علي الخرائط اسم مصر.

انظر حولك، وشاهد كيف انتشر الفساد والرشوة والمحسوبية، وكيف عادت سيطرة رأس المال والإقطاع وكيف، بعد ما يزيد علي نصف قرن من حركة يوليو، أصبحنا بحاجة إلي حركة أخري، تعيد إلينا مصر.

انظر إلي كل مسئول تعرفه، وكل رجل أمن تقابله، وكل عضو حزب وطني تعرفه، وكل متجاوز، وكل فاسد، وكل لص، وكل مجرم، وكل منافق، وكل ماسح جوخ، لتري أنهم قد أصبحوا، في ظل نظام فاس هم قمة المجتمع ..... انظر حولك ألف مرة، ثم سل نفسك في صراحة .... أهي مصرك، أم ..... مصر بتاعتهم ؟!



نقلاً عن جريدة الدستور ...

ليست هناك تعليقات: