الأحد، أغسطس 29، 2010

بحث في عدم إطاعة السلطان الجائر ونصوص أهل الحديث وغيرهم

بحث في عدم إطاعة السلطان الجائر ونصوص أهل الحديث وغيرهم


إطاعة السلطان الجائر

فلقد اتّفقت كلمة الحنابلة ومن لفّ لفّهم على وجوب إطاعة السلطان الجائر وإليك نصوصهم :
قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله : السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة ، البر والفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمّة وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز ، من دفعها إليهم أجزأت عنهم ، براً كان أو فاجراً ، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كلّ من ولي ، جائزة إقامته ، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة.
ومن خرج على إمام من أئمّة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه ، أكان بالرضا أو بالغلبة فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول اللّه ، فإن مات الخارج عليه ، مات ميتة جاهلية. (1)
هذا الرأي المنقول عن إمام الحنابلة لا يمكن إنكار صحّة نسبته إليه ، ولأجل ذلك قال الأُستاذ أبو زهرة : ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائر الفقهاء ، وهو جواز إمامة من تغلّب ورضيه الناس وأقام الحكم الصالح بينهم ، بل إنّه يرى أكثر من ذلك ، إنّ من تغلّب وإن كان فاجراً تجب إطاعته حتّى لا تكون الفتن. (2)
والعبارة التي نقلناها عن إمام الحنابلة تكاد تعرب عن وجوب إطاعة الجائر ولو أمر بمعصية الخالق وهو أمر عجيب منه جدّاً مع أنّ أكثر الأشاعرة الذين يحرّمون الخروج عليه ، لا يوجبون طاعته في هذا الحال كما يوافيك نصوصهم ، ولغرابة رأي ابن حنبل هذا ، ذيّله أبو زهرة بقوله : ولكنّه ينظر في هذه القضية إلى مصلحة المسلمين وأنّه لا بدّ من نظام مستقرّ ثابت ، وأنّ الخروج على هذا النظام يحل قوة الأُمّةويفك عراها ، ولأنّه رأى من أخبار الخوارج وفتنتهم ما جعله يقرر أنّ النظام الثابت أولى وأنّ الخروج عليه يرتكب فيه من المظالم أضعاف ما يرتكبه الحاكم الظالم.
ثمّ إنّه ينظر في القضية نظرة اتباع فإنّ التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه قد رأوا مظالم كثيرة ، ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ، وكانوا ينصحون الخلفاء والولاة إن وجدوا آذاناً تسمع ، وقلوباً تفقه ، وفي كلّ حال لا يخرجون ولا يؤيدون خارجه. (3)
وهذا التوجيه من الأُستاذ غريب جدّاً.
أمّا أوّلاً : فلأنّ الخروج على النظام الظالم إذا كان موجباً لحلّ قوّة الأُمّة وفك عراها ، يكون الصبر تشويقاً لتماديه في الظلم وإكثار الضغط على الأُمّة وبالنتيجة : تحويل الدين وتحريفه عمّا هو عليه من الحقّ ... فأي فائدة تكمن في حفظ قوّة أُمة ، انحرفت عن صراطها وتبدّلت سننها وتغيّرت أُصولها ، فإنّ الظالم لا يرى لظلمه حدّاً ولتعدّيه ضوابط ، فلو رأى أنّ الإسلام بواقعه يضاد آراءه الشخصية وميوله الخبيثة ، عمد إلى تغييره وتحويره فليس يقتصر ظلم الظالم على التعدّي على النفوس والأموال ، بل الراكب على أعناق الناس يغير كلّ شيء كيفما يريد ، وحيثما يرى أنّه لصالح شخصه ، والتاريخ شاهدنا الأصدق على ذلك.
وأمّا ثانياً : فإنّ الأُستاذ أبا زهرة نسب إلى التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه بأنّهم رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ... ولكنّه غفل عن قضية الحرة الدامية حيث كان الخارجون فيها على الحكومة الغاشمة هم الصحابة والتابعين ... .
وهذا المسعودي صاحب « مروج الذهب » ينقل إلينا لمحة عمّا جرى هناك ويقول :
ولمّا انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرة وعليهم « مسرف » خرج إلى حربه أهلها ، عليهم عبد اللّه بن مطيع العدوي وعبد اللّه بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس ، فقد قتل من آل أبي طالب اثنان : عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب; ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب : الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب ، وحمزة بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب والعباس ابن عتبة ابن أبي لهب بن عبد المطلب ، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف. (4)
هل نسي أبو زهرة ( أو لعلّه تناسى ) قضية دير الجماجم حيث قام ابن الأشعث التابعي في وجه الحجّاج السفّاك بالموضع المعروف بدير الجماجم فكان بينهم نيف وثمانون وقعة تفانى فيها خلق وذلك في سنّة اثنتين وثمانين. (5)
وعلى كلّ تقدير فقد اقتفى أثر أحمد بن حنبل جماعة من متكلّمي الأشاعرة وغيرهم وادّعوا بأنّ هذه عقيدة إسلامية كان الصحابة والتابعون يدينون بها وأنّه يجب الصبر على الطغاة الظلمة إذا تصدروا منصة الحكم ، نعم غاية ما يقولونه هو : إنّه لا تجب إطاعتهم إذا أمروا بالحرام والفساد جاعلين قولهم هذا منعطفهم الوحيد عن قول ابن حنبل وبقية أهل الحديث ، وإليك نبذة من أقوال القوم :
1 ـ قال الإمام الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي ( المتوفّى 321 هـ ) في رسالته المسمّاة ب ـ « بيان السنّة والجماعة » المشهور ب ـ « العقيدة الطحاوية » : ونرى الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر من أهل القبلة ولا نرى السيف على أحد من أُمّة محمّد إلاّ على من وجب عليه السيف ( أي سفك الدم بالنصّ القاطع كالقاتل والزاني المحصن والمرتد ) ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولا ولاة أمرنا وإن جاروا ، ولا ندعو على أحد منهم ولاننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات اللّه عزّوجلّ فريضة علينا مالم يأمروا بمعصية. (6)
2 ـ قال الإمام الأشعري من جملة ما عليه أهل الحديث و السنّة : ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كلّ إمام برّ وفاجر ... إلى أن قال : ويرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح ، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف ، وأن لا يقاتلوا في الفتن. (7)
3 ـ وقال الإمام أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي : الإمام إذاجار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضي ... ثمّ قال : وجه قول عامة أهل السنّة والجماعة إجماع الأُمّة ، فإنّهم رأوا الفسّاق أئمّة ، فإنّ أكثر الصحابة كانوا يرون بني أُمية وهم بنو مروان أئمّة حتى كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلفهم ويرون قضاياهم نافذة ، وكذا الصحابة والتابعون ، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم فسّاق ، ولأنّ القول بانعزال الأئمّة بالفسق ، إيقاع الفساد في العالم ، وإثبات المنازعات وقتل الأنفس ، فإنّه إذا انعزل يجب على الناس تقليد غيره ، وفيه فساد كثير ثمّ قال : إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ولا يجوز الخروج عليه ، وهذا مروي عن أبي حنيفة ، لأنّ الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم. (8)
4 ـ وقال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ( المتوفّى عام 403 هـ ) في التمهيد : إن قال قائل : ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟ قيل له : يوجب ذلك أُمور : منها : كفر بعد إيمان ، ومنها : تركه الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها : عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمةوتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ، وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأُمور ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه ، إذ احتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وأنّه قال ( عليه السَّلام ) : واسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ، ولو لعبد حبشي ، وصلوا وراء كلّ بر وفاجر. وروي أنّه قال : وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة. (9)
5 ـ وقال الشيخ نجم الدين أبوحفص عمر بن محمد النسفي ( المتوفّى عام 537 هـ ) في العقائد النسفية : ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور ... ويجوز الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر.
وعلّله الشارح التفتازاني بقوله : لأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم. (10)

ما استدلّوا به من روايات لإطاعة الجائر
وقد أيّدت تلك العقائد بروايات ربما يتصور القارئ انّ لها نصيباً من الحقّ أو حظاً من الصدق لكن الحقّ أنّ أكثرها مفتعلة على لسان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد أفرغها في قالب الحديث جمع من وعاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفّظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم ، وإليك بعض تلك الروايات التي رواها مسلم في صحيحه :
1 ـ روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت : يا رسول اللّه ... إلى أن قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنّتي ، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ، قال : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع.
2 ـ وروي عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية ... إلى أن قال : ومن خرج على أُمّتي يضرب برها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه.
3 ـ روي عن ابن عباس أنّه قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنّه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتته جاهلية.
4 ـ روي عنه أيضاً ، عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : من رأى من أميره شيئاً فليصبر ، فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّمات ميتة جاهلية.
5 ـ روي عن عبد اللّه بن عمر ، أنّه جاء إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال : أخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إنّي لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقوله : من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
وقد فسر ابن عمر قول رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتى في مسألة الحرة.
6 ـ روي عن أُمّ سلمة ، أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف بريء و من أنكر سلم ولكن من رضي وتابع ». قالوا يا رسول اللّه : ألا نقاتلهم؟ قال : « لا ما صلّوا ».
7 ـ روي عن عوف بن مالك في حديث : قيل يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعته. (11)
وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في « جامع الأُصول ». (12)
8 ـ روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون بما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون مالا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برئ ومن أمسك يده سلم ولكن من رضي وتابع. (13)
9 ـ وروى ابن عبد ربه ، عن عبد اللّه بن عمر : إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر ، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر. (14)
10 ـ وهذه الأحاديث تهدف إلى قول أحمد بن حنبل فقد عرفت ما في إحدى رسائله وهذا نصّه : السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة. (15)
عرض أحاديث إطاعة الجائر على القرآن
وقبل كلّ شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب اللّه سبحانه فإنّه المحك الأوّل لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم.
قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفّار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنا اللّهَ وَأَطَعنا الرَّسُولا* و قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ العَذابِ وَالعَنْهُمْ لَعْناً كَبيراً ). (16)
فهذا القسم من الآيات يندّد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم التي توجب ضلالة المطيع له عن السبيل السوي ، وثمة آيات تندّد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر ، وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك ، وهذه الآيات هي الواردة حول قوم بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسّمهم إلى أصناف ثلاثة :
الأوّل : الجماعة المعتدية العادية التي رفضت حكم اللّه سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قال سبحانه : ( إِذْ يعدون في السّبت إِذ تَأْتيهِمْ حيتانُهُمْ يَوْم سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُون لا تَأْتيهِمْ ... ). (17)
الثاني : الجماعة الساكتة التي أهمّتهم أنفسهم لا يرتكبون ماحرم اللّه وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها ، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة التي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي ، بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) . (18)
الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر معتبرين ذلك وظيفة دينية عريقةونصيحة لازمة للإخوان وقد حكى اللّه سبحانه عن لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال : ( مَعْذِرةً إِلى ربِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُون ) . (19)
نرى أنّ اللّه سبحانه أباد الطائفتين الأوّليين وأنجى الثالثة. قال سبحانه : ( فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذاب بَئيس بِما كانُوا يَفْسُقُون ) . (20)
فالآية الأخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط وهلاك العادين والساكتين عن عدوانهم ، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً لماذا عمّ العذاب كلتا الطائفتين؟ أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف ، بأنّ في القيام والخروج وحتى في النصيحة بالقول ، تضعيفاً لقوة الأُمّة وفكّاً لعراها؟
فلو دلّت الآية الأُولى على حرمة طاعة الظالم في الحرام ، ودلّت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين ، فهناك آية ثالثة تدلّ على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه : ( وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّار ). (21)
أو ليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات وإقامة الصلاة بأمره ، وإدارة كلّ شأن خوّل منه إليه ، يعد ركوناً إلى الظالم؟! فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في ما يسمّى بالدول الإسلامية الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي ، ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجمعات بطول العمر ودوام السلامة ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط التي يرسمها ويصوّرها لهم أُولئك الحكام ، الذين يعدهم هؤلاء المرتزقة محاور ومراكز ، ويعدّون أنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها ، اللّهمّ إلاّ أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكّن ممّا يجب عليهم من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على مراتبها المختلفة ، ولكنّه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان ، وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم؟!

أحاديث معارضة لأحاديث طاعة الجائر
إنّ هناك روايات تنفي صحّة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً وعند المعارضة يؤخذ من السنّة الشريفة ما يوافق كتاب اللّه الحكيم. وإليك نزراً من تلك الروايات :
قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « اسمعوا : سيكون بعدي أمراء ، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس منّي ولست منه ، وليس بوارد علي الحوض ». (22)
هذا بعض ما لدى السنّة من الروايات ، و أمّا ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها :
1 ـ عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان ، جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلّطه اللّه عليه في نار جهنم وبئس المصير ».
2 ـ وعنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً ، أو مد لهم مدة قلم ، فاحشروهم معهم ».
3 ـ وعنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « من خفّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار ».
4 ـ وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّتباعد من اللّه ».
5 ـ وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السَّلام ) أنّه قال : « من أحبّ بقاء الظالمين ، فقد أحبّ أن يعصى اللّه ».
6 ـ و عنه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين حشرهاللّه يومالقيامة حيراناً ».
7 ـ وعنه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم ، فقد خرج عن الإسلام ».
8 ـ وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السَّلام ) أنّه قال : « ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة ، أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها ، لا ، ولا مدة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ اللّه من الحساب ». (23)
وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السَّلام ) الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكلّ الوسائل الممكنة ، فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ ما مرّ من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه ، والرضا بجوره ، جميعها ممّا لفّقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة ، فنسبوه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو ـ روحي فدا هـ منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسنّة الصحيحة.
ولو لم يكن في المقام إلاّ قول علي ( عليه السَّلام ) في خطبته : « ... وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ... » (24) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

وفي ختام الكلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما قاله الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي ( عليهما السَّلام ) لأهل الكوفة حيث خطب أصحابه وأصحاب الحرّ ( قائد جيش عبيد اللّه بن زياد آنذاك ) فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال : « أيّها الناس إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر ». (25)
وهذه النصوص الرائعة المؤيّدة بالكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أُمّية وبني العباس ، تشهد بأنّ ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ما هو إلاّ بعض مفتعلات أصحاب العروش وقد وضعها وعّاظهم ومرتزقتهم ، وإلاّفالطيّبون من الصحابة والتابعين بريئون من هذه النسبة.



1 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة : 2/322.
2 ـ المصدر السابق : ص 321; ولاحظ كتاب السنّة لابن حنبل : 46.
3 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 2/322.
4 ـ مروج الذهب : 3/69 ـ 70.
5 ـ نفس المصدر السابق : 3/132.
6 ـ شرح العقيدة الطحاوية : 110و 111.
7 ـ مقالات الإسلاميين : 323.
8 ـ أُصول الدين : 190 ـ 192 .
9 ـ التمهيد : 186.
10 ـ شرح العقائد النسفية : 185و 186.
11 ـ صحيح مسلم : 6/20 ـ 24 ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، وباب حكم من فارق أمر المسلمين.
12 ـ لاحظ جامع الأُصول : 4 ، الكتاب الرابع في الخلافة والأمارة ، الفصل الخامس ص 451 الخ.
13 ـ السنن الكبرى : 8/158.
14 ـ العقد الفريد : 1/8.
15 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 2/322.
16 ـ الأحزاب : 66 ـ 68.
17 ـ الأعراف : 163.
18 ـ الأعراف : 164.
19 ـ الأعراف : 164.
20 ـ الأعراف : 165.
21 ـ هود : 113.
22 ـ جامع الأُصول : 4/75 نقلاً عن الترمذي والنسائي.
23 ـ راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة : 12 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، الأحاديث 6 ، 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15و الباب 44 الحديث 5 و 6.
24 ـ نهج البلاغة : الخطبة 3.
25 ـ تاريخ الطبري : 4/304 ، حوادث سنة 61.