الأحد، سبتمبر 28، 2008

المصري احمد راسم النفيس: تحذيرات القرضاوي من التشيع بمثابة تحريض على القتل والتهجير والسجن


د/ أحمد النفيس لـ"آفاق": تحذيرات القرضاوي من التشيع بمثابة تحريض على القتل والتهجير والسجن



القاهرة- آفاق - خاص

قال الكاتب والمؤلف الشيعي المصري الدكتور أحمد راسم النفيس إن مصر كانت شيعية في العصر الفاطمي وأن التشيع اختفى منها بسبب عمليات القمع والإبادة الجماعية والتهجير الجماعي. واعتبر النفيس في حوار خاص مع "آفاق" تحذيرات القرضاوي من المد الشيعي بمثابة التحريض على قتل الشيعة وتهجيرهم وسجنهم. وأشار النفيس وهو مؤلف للعديد من الكتب التاريخية والثقافية إلى أنه وعلى الرغم من كل هذه الهجمات على الشيعة فإن عدد الشيعة في مصر (المتشيعون وعوائلهم) يقارب نصف مليون، ويتوزعون على مساحة واسعة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وهم مرشحون للزيادة نظرا للهجمات الإعلامية ضدهم والتي تثمر نتائج عكسية.

ونصح النفيس مثيري الحملات ضد الشيعة بأن "يكفوا ويبحثوا عن السبب في إخفاق الدول العربية والإسلامية في التطور بدلا من إلهاء الناس بمعارك جانبية وليتركوا لكل إنسان حريته أن يعبد الله بالطريقة التي يعتقد صوابها".

وفيما يلي نص الحوار:

آفاق: كم هو عدد المصريين الذين يؤمنون بفكرة التشيع في مصر، وأين يكثر أتباع هذا الفكر؟
النفيس: بسم الله الرحمن الرحيم: دعنا من قضية أعداد الشيعة وأعداد السنة فنحن لا نؤمن بمنطق المكاثرة العددية. نحن نؤمن أولا بمبدأ الأخوة الإنسانية (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) فالمجتمع الإنساني مجتمع واحد والبشر على اختلاف أديانهم تتشابه احتياجاتهم وهي الأمن والحرية والكرامة والمأكل والملبس... والدين جاء من عند الله ليؤكد على أن هذه المعاني تشمل كل البشر وأنها ليست حقا لطائفة دون أخرى.

ورغم العناد والعدائية التي أبداها أكابر مجرمي قريش لدى إعلان رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله بدعوته إلا أن المانع الأساس للدعوة الإسلامية كان التزام الكثير من العرب بهذه القيم الإنسانية التي يتنكر لها بعض أدعياء الإسلام الآن.

الحالة الشيعية الراهنة في مصر ليست اختراعا فمصر كانت شيعية في أغلبها إبان العصر الفاطمي والتشيع لم يختف من مصر كما يقولون بسبب انتهاء الدولة الراعية للتشيع بل بسبب عمليات القمع والإبادة الجماعية والتهجير الجماعي وهي أمور بدأ المصريون أخيرا في الانتباه إليها كما أن التشيع في مصر لم يبدأ مع العصر الفاطمي.

لدي كتاب عن (نجباء الصعيد) وهو كتاب يؤرخ لمصر في القرن العاشر الهجري ويتحدث عن أسر وشخصيات شيعية عاشت في هذه الفترة.

ثم أنا لا أفهم سببا واحدا لهذه الهجمة على كلمة (شيعة) واعتبارها مرادفا للكفر والزندقة!!. الكثير من شيوخ الأزهر القدامى والمعاصرين لهم موقف مختلف كلي مع هذه الحالة العنصرية التكفيرية التي لا تقوم على دليل ولا برهان بل تقوم على منطق (هو كده!!). عندما ترد عليهم بأن الشيخ شلتوت أو الشيخ أبو زهرة قال كذا وكذا يسارعون إلى تجريحهم ووصفهم بالغفلة والتهاون!!.

يعني: هؤلاء لا سلاح لهم سوى فرض الرأي واستخدام أسوأ ما في ترسانتهم من بذاءات ليبقى الناس خائفين من بعبع التشيع ولا يقترب أحد من هذا المنهج وإلا فسيلقى ما لا يسره!.

الشيخ القرضاوي يأتي إلى مصر ليفرض رأيه وقانونه ويجعل من نفسه مرجعية فوق القانون الدولي والدستور وميثاق حقوق الإنسان ويجد من يطبل له!!.

آفاق: ماذا يعني أن يطالب القرضاوي بإيقاف ما يسميه التبشير الشيعي؟؟
النفيس: المعنى واضح: يا رجال الأمن تحركوا كما تحركتم من قبل وألقوا القبض على فلان وفلان وألقوهم في غيابة الجب لأن وجود من يقول بولاية أهل البيت يزعج الشيخ الذي لا يختلف تصرفه عن فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد!!).

لقد قام الأمن المصري باعتقالي ثلاث مرات بتهمة التشيع (1987 ، 1989 و 1996) فضلا عن مرة بتهمة الانضمام للإخوان وتنظيم الجهاد عام 1981 رغم أني لم أكن يوما ما عضوا في هذا التنظيم الإرهابي.

يتحدثون عن الديموقراطية وحرية التعبير وووووو ولكنهم يريدون هذه الأشياء فقط لأنفسهم، حتى عندما حدثت الأزمة الأخيرة وعندما اعترض فهمي هويدي وسليم العوا على حالة الهياج التي أحدثها القرضاوي تولى أزلام المخابرات الصدامية والوهابية تسفيه آرائهم والنيل منهم.

المعنى أنهم يريدون جمهورا قطيعا يسوقه شخص واحد بخطبة تهييجية ولا يقبلون بديمقراطية أو شورى داخل القطيع لا من فهمي هويدي أو العوا وهم أصحاب فضل عليهم. تلك هي المأساة التي يعيشها مجتمعنا منذ مئات السنين.

رحلتي مع الفكر الإسلامي بدأت منذ انضمامي للإخوان عام 1976 وكنت وقتها طالبا في الجامعة واكتشفت ألا مكان داخل هذه الجماعات لا للفكر ولا للبحث ولا للرأي الآخر وكل ما هو مطلوب منك أن تذعن وتسمع وتطيع.

إنهم يتنقلون من كارثة إلى أخرى ومن مصيبة إلى حفرة ولكن التفكير ممنوع أما التكفير فمسموح بضوابط عند البعض وسداح مداح عند الآخرين!!.

كنت أقول لأحد الأصدقاء قبل قليل، أن القبضة الأمنية هي التي تمنع تحويل مصر إلى صومال أخرى، إذ لو ترك الأمر لقادة تلك الجماعات وللشيوخ الوهابيين أصحاب فتاوى القتل والتفجير الجماعي وشن الحرب على ميكي ماوس لبدأت الحرب الأهلية منذ سنين فيما بينهم وفيما بينهم وبين الناس. الشيء الوحيد الذي اتفق هؤلاء الشيوخ عليه هو كرههم للشيعة لأسباب كثيرة.

أولها أن الفكر الشيعي فكر ناضج يؤمن بدور العقل والنظر في التاريخ ولا يمكن لكل من هب ودب أن يصدر فتاوى من نوعية فتوى ميكي ماوس أو توم وجيري.

ثانيا أن الفكر الشيعي ذو جذور راسخة في التراث الإسلامي وفي كتب القوم وهو ليس اختراعا وأن القوم لا حجة لديهم سوى الزعم بأنه فكر باطني ومحاكمة القلوب والزعم بأن الشيعة يظهرون غير ما يبطنون وغير ذلك من الترهات التي أدمنها القوم.

الآن يصرخ القرضاوي من ظهور الشيعة وأنهم يجاهرون بأفكارهم ثم يعود ليقول أنهم يمارسون التقية!!. التناقض بين الاتهامين أوضح من أن يذكر!!.

الأمن يستدعي (المتهمين بالتشيع) ليسألهم عن عقيدتهم!!. فهل يتعين على المواطن الضعيف أن يعترف (بالجريمة) المنسوبة إليه أم يستخدم سلاح (التقية) الذي يقيه من بطش هؤلاء المجرمين.

يأتي القرضاوي ليحرض ويطالب بإلقاء القبض على الشيعة ومحاصرتهم ثم يلوم عليهم لأن بعضهم يتنصل من (التهمة) ولا يسهل مهمة أساتذة التلفيق والتعذيب؟!. أليس هذا هو الفجور بعينه؟!.

آفاق: كيف يمكننا أن نعرف عدد الشيعة إذا، إذا كان هذا هو الحال وإذا كان هذا هو منطق الشيوخ؟!.
النفيس: تقديرنا الذي لا يستند إلى أية إحصاءات بل لمعلومات شخصية أن عدد الشيعة في مصر (المتشيعون وعوائلهم) يقارب نصف مليون نظرا لامتدادهم على مساحة مصر الواسعة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وهم مرشحون للزيادة نظرا للهجمات الإعلامية ضدهم والتي تثمر نتائج عكسية إذ أنها تدفع الكثيرين للبحث والقراءة خاصة مع وجود شبكة المعلومات الدولية وهذا يفسر سبب قيام الوهابيين بتدمير المواقع الشيعية أخيرا.

لا يتاح لي معرفة المتشيعين الجدد إلا عبر اتصال هاتفي أو لقاء غير مرتب وهذا يوفر حماية أمنية لهم ضد أي ضربة محتملة. أما نحن فلم نعد نأبه بهذه التهديدات.

وبالتالي فالشيعة في مصر حالة ثقافية ليست قاصرة على مكان معين ومن المفيد أن نشير إلى وجود متشيعين بالوراثة أبا عن جد ولكنهم متوارون عن الأنظار ولا يعلنون عن تشيعهم.

آفاق: تعني أن ليس هناك مشروع لتشييع مصر؟؟
النفيس: فلنكن واقعيين وعقلانيين. هناك دولة ونظام سياسي قائمين بالفعل في مصر التي عرفت أول دستور ديمقراطي يفصل بين السلطات ويحترم حرية العقيدة وكان هذا سنة 1923 ولكن انقلاب يوليو قضى عليه.

الناس تحتاج إلى الحرية والخبز والأمن وهذه أمور لن تنتظر لا تشييع مصر ولا أخونتها وعلى المسلمين أن يتعودوا على ممارسة حريتهم العقائدية وترك الآخرين يفعلون نفس الشيء.

العالم الآن به عشرات الدول الديمقراطية المشغولة بهموم مواطنيها وتنمية اقتصادها والبحث عن مكان لائق لها بين الأمم وبالتالي فنحن لن نعيد اختراع العجلة ولا الدولة وأنصح من يواصلون إطلاق هذه الإثارات أن يكفوا وأن يبحثوا عن السبب في إخفاق الدول العربية والإسلامية في التطور بدلا من إلهاء الناس بمعارك جانبية وليتركوا لكل إنسان حريته أن يعبد الله بالطريقة التي يعتقد صوابها.

آفاق: هل يواجه شيعة مصر مضايقات من قبل الحكومة وما هي أشكال هذه المضايقات؟
النفيس: ليس الشيعة وحدهم من يتعرض للمضايقات فنحن نعيش في ظل نظام أولويته هي الأمن ولا شيء سوى الأمن (أمن النظام فقط) وهو يرى في كل مشروع فكري أو سياسي تهديدا قائما أو محتملا.

المضايقات متعددة بدءا من الاعتقالات القديمة والاستدعاءات الأمنية المتكررة والإيقاف في المطارات ومصادرة أي كتب تأتي عبر البريد والمحاربة في الرزق والأصل في مصر هو التهديد أما الأمان فهو الاستثناء.

ونحن لا نعرف الآن كيف ستنتهي هذه الحملة التي دشنها القرضاوي والتي مضمونها الوحيد الدعوة إلى تهجير شيعة مصر أو إلقائهم في البحر تأسيا بمثله الأعلى صلاح الدين الأيوبي الذي فعل ما هو أسوأ من هذا قبل ثمانية قرون؟؟!!.

مضمون رسالة القرضاوي الأخيرة هي الدعوة لإلقاء شيعة مصر في البحر!!. عندما أعود من أي سفرة إلى الخارج يجري إيقافي في الجوازات ساعتين على الأقل ثم يلي ذلك التفتيش المكثف والتكدير ثم القيام بمصادرة بعض الأوراق أو السي ديهات عديمة القيمة لا لشيء إلا لإطالة مدة احتجازي بين يدي زبانية الجمرك واتخاذ إجراءات تسليم وتسلم فتمتد الرحلة بذلك خمس ساعات إضافية!!.

أحد وسائل التكدير التي اخترعها الأمن المصري هو التكدير بالوهابية حيث قاموا بتعيين خطيب وهابي في الزاوية الموجودة أسفل البناية التي أقطن فيها ولم يكن للرجل من همة طيلة الفترة التي طالت لمدة عام ونصف إلا سب وشتم الشيعة والتجمع أمام مدخل البناية لإزعاج بناتي بنظراتهم التهديدية أثناء دخولهم وخروجهم.

الآن يسمح الأمن المصري لعديد الفضائيات الوهابية بالبث من القاهرة والتي لا هم لها إلا نشر الكراهية والتحريض في حين أنه ينزعج أشد الانزعاج من تواجد صحفي معارض واحد على إحدى القنوات الفضائية ويقوم بمنعه على الفور.

ومن الواضح أن النظام لم يستفد من دروس الماضي وكيف انقلب هؤلاء عليه في كل مرة كان يتحالف معهم.

آفاق: بالتأكيد للشيعة في مصر طقوس دينية معينة فهل تتمكنون من تأديتها بحرية تامة، أم أنكم قد تضطرون لإخفاء بعض منها لوجود مضايقات من جهات معينه لأتباع الفكر الشيعي؟؟؟
النفيس: لا أفضل كلمة طقوس إذ ليس للشيعة طقوس تختلف عن بقية المسلمين. فالصلاة هي الصلاة والصيام هو الصيام والحج هو الحج وهكذا.. ولكن للشيعة مناسبات يحتفون بها مثل ذكرى استشهاد الإمام الحسين في العاشر من محرم والمولد النبوي ومواليد أئمة أهل البيت، وهم يحتفون بها في بيوتهم في الوقت الراهن.

فمن ناحية فالشيعة في مصر ليس لهم إلا إمكاناتهم الشخصية المحدودة وليس لديهم تصريح بالعمل العلني ولا جمع التبرعات وبالتالي فتأسيس مكان للتجمع ليس بالأمر اليسير.

كما أن الأمن لا يمانع في إرسال من يتحرش بك أو يقوم بشتمك كهذا الوهابي الذي أرسله الأمن خصيصا إلى مقر إقامتي ليقوم بمحاربة التشيع من عقر داري!!.

لو كان لدى هؤلاء أي ذرة من الحيادية أو الحرص على منع وقوع كارثة لما جاءوا بهذا الشخص من الأساس ناهيك عن انعدام المنطق الشرعي الذي يسمح بإقامة صلاة الجمعة في زوايا أو حتى مساجد لا يبعد بعضها عن بعض إلا بضعة أمتار.

إنها الفوضى البناءة التي يستخدمها هذا النظام لضرب الناس بعضهم ببعض ولا يهم ما يجري بعد ذلك.

الأمن المصري يعرف أن هؤلاء يهددون بقتل الكتاب والمفكرين ويزعم أنه يقوم بحمايتهم ولكن كونك شيعي لا يمنحك حق الحماية بل يمنحه حق التحرش بك والتحريض عليك.

وهذه هي الديموقراطية المصرية وخصوصياتها الثقافية كما يزعمون!!.

آفاق: هل تستطيعون التبشير للتشيع داخل مصر بحرية تامة، أم أن هناك صعوبات في ذلك؟
النفيس: نحن لا نوافق على مصطلح التبشير الذي يراد من خلاله تقديم الشيعة كأصحاب دين مغاير. الشيعة جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية وهذا هو الواقع أعجب الشيخ القرضاوي أم لم يعجبه. الشيعة جزء من منظومة العالم الإسلامي وهذا ليس موضعا للتشكيك. الواقع يقول أن خصوم الشيعة ليسوا قادرين على محوهم من الوجود ولكنهم يريدون إلغاءهم من المعادلة السياسية أو تقليل حجمهم إن استطاعوا.

التطور الكبير الذي حدث في العراق كان واحدا من أسباب حالة الهياج التي يعاني منها القوم الآن. يريدون أن يبقى الشيعة محكومين بعد أن فشلوا على مر التاريخ في محوهم من الوجود.

من ناحية أخرى فنحن نعتقد أن التشيع فضلا عن أنه يضع الأمور في نصابها فهو يوفر للمجتمعات الإسلامية المبتلاة بالتطرف والإرهاب الوهابي مخرجا لائقا وأسلوبا عقلانيا في التفكير وممارسة التدين.

من الطبيعي أن تكون هناك مقاومة ورفض للتغيير والإصلاح لأنهم يريدون أن تبقى الدنيا على حالها وأن يبقى القرضاوي قرضاوي يقول ويلتف الناس حوله يسمعون ويمصمصون شفاههم إعجابا بكل ما ينطق به على أمل أن تأتي دولة الإخوان أو تعود الخلافة من قطر أو من الصومال أو حتى من كهوف تورا بورا والآن من وزيرستان!!.

لا يهم، المهم أنهم ما زالوا يحلمون أن يخرج البغل من الإبريق بعد أن توهموا أنهم نجحوا في إدخاله فيه وأن يبقى الإبريق سليما سليما بل وصالحا لشرب الماء والعرقسوس!!. هذا هو حالهم.

أحد أسباب الصدام بيننا وبين الشيخ القرضاوي كان كتابه المسمى (تاريخنا المفترى عليه) والذي زعم فيه أن تاريخنا كان عظيما ورائعا وكان الكل يطبق الشريعة الإسلامية بمن فيهم ذلك السفاح المدعو الحجاج بن يوسف الثقفي وأن العلمانيين والشيعة يتآمرون لتشويه صورة هؤلاء العظماء.

عندما علم بصدور كتابنا (القرضاوي وكيل الله أم وكيل بني أمية) ردا على كتابه الملئ بالخزعبلات خرج على الهواء في الجزيرة معتبرا أن الأمر يتعلق بمؤامرة إيرانية وتبشير شيعي!!!.

إذا نحن نعرض آراءنا في التاريخ والفكر الإسلامي ونحاول أن نصحح ما أحدثه هؤلاء من تشوهات وطبعا فهذا الأمر لا يروق لهم لأنهم يؤمنون بمبدأ (هو كده) و(ليس في الإمكان أبدع مما كان).

القرضاوي يؤمن أن ساحة الفكر الإسلامي في مصر وغير مصر مملوكة له بوثيقة تملك وأن (الله وكله للدفاع عن هذا الدين وهو يرفض التخلي عن هذه المهمة الإلهية) وهذا كلامه بالحرف.

التبشير الشيعي المزعوم لا يتعدى طباعة بعض الكتب وبيعها عبر القنوات الشرعية وليس توزيعها في الخفاء.

دعينا إلى بعض الندوات في القنوات الفضائية التي صممت في الأساس لتسقيط التشيع ولما لم تؤدي إلى ما كانوا يحلمون إذا بهم الآن يصرخون ويقولون الذئب الذئب.

ما حدث بعد ذلك هو أن الأمن قد أصدر تعليماته بمنعنا من الظهور الإعلامي ومنذ مايو 2007 وأنا ممنوع من المشاركة.

إذا قمنا بالرد عليهم قالوا تبشير. وإن سكتنا قالوا لا يقدرون على الرد.

مرة أخرى نحن لا نفكر بمنطق المكاثرة وحشد الموالين بل نؤمن بحقنا في طرح ما لدينا من أفكار نعتقد أنها ستثري المناخ الفكري وتقدم إضافة للجميع وتقدم حلا لأخطر مشكلة يواجهها العالم الإسلامي وهي الإرهاب ونرى أن المقاومة التي يبديها البعض راجعة لحالة الجمود السائد ورغبة الفرقاء في الحفاظ على مشاريعهم الفكرية والسياسية رغم كل ما منيت بها من إخفاقات وتراجعات طيلة الفترة الماضية وما جرته من كوارث.

آفاق: هناك من يتهم الشيعة في الوطن العربي بانتمائهم إلى جهات ومرجعيات دينية في إيران أكثر من انتمائهم لوطنهم الأم ، ما تعليقك؟
النفيس: الكلام عن انتماء الشيعة لإيران هو سلاح العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة والفكر بالفكر. إنها نظرية المؤامرة التي يرى فيها البعض تفسيرا مقنعا وثابتا لكل ظواهر الكون..

مرة يتحدثون عن الخطر العلماني وأخرى عن خطر التغريب وكأن المواطن المصري أصبح يخرج إلى الشارع وعلى رأسه قبعة الكاوبوي في حين أصبحت شوارعنا مملوءة بالفتيات المنقبات من أعلى إلى أسفل ومن يرتدون القمصان القصيرة ويحملون في أيديهم كتابا مجلدا طبع على نفقة فاعل الخير الشهير الذي مول عمليات تنظيم القاعدة وأسس دولة الطالبان.

من ناحية أخرى فالحالة الشيعية في مصر لا تحظى بأي رعاية أو دعم لا من إيران ولا من غير إيران وكل هذا هراء فارغ.

يتحدثون عن مليارات شيعية وإيرانية تنفق من أجل نشر التشيع ونحن نريد منهم أن يقدموا قرينة واحدة ولن نقول دليلا على صحة هذا الهراء. الخلاصة أنهم لا يريدون رؤية الحقيقة كما هي!!.

القرضاوي يتحدث عن كوادر مدربة وأنا والحمد لله لم أذهب إلى إيران إلا زائرا ولم أقم فيها ولم أتلق أي دراسة دينية في أي حوزة بل كونت ثقافتي من القراءة في كل اتجاه ولا فارق عندي بين كتاب سني وآخر شيعي.

يتحدثون عن تمويل بالمليارات ونحن والحمد لله نعيش حياة بسيطة متواضعة شأننا شأن عشرات الملايين من المصريين وهو ما نفخر ونعتز به.

هذه هي مشكلة الذين تربوا على رشاوى الوهابية وجوائزها لأنهم لا يصدقون أن من قدم هذا الإنتاج الفكري ليس ممولا مثلهم.

آفاق: كيف هي علاقتكم بالسلفية وجماعة الإخوان المسلمين في مصر؟
النفيس: الإخوان جماعة دينية مسيسة أو جماعة سياسية ذات غطاء ديني ولذا فقد نأت بنفسها عن الدخول في معركة القرضاوي الأخيرة نظرا للضرر البالغ الذي سيحدثه هذا على صورتهم ومصالحهم وعلى كل حال فليس لنا معهم علاقة ناشطة باستثناء العلاقات العادية.

أما التيارات السلفية فهم أصحاب فكر جامد وهم يكررون ما قاله ابن تيميه بحذافيره من دون تفكير ولا تدبر وهم الآن رأس الحربة في المشروع الوهابي الهادف لتحويل مصر إلى إمارة طالبانية ولا شك أن هذا المشروع قد قطع خطوات واسعة في تنفيذه حتى الآن بدعم من النظام الحاكم.

التيار السلفي ليس شيئا واحدا بل هو تيارات ولا شك أن الممَولين وهابيا لا يمكنهم اتخاذ أي موقف يتعارض مع شروط الجهات المانحة ومع ذلك نأمل أن يتدبر البعض منهم فيما يجري من حوله وأن يعيد قراءة المسألة بعيدا عن الدوجمات التيموية المقررة سلفا.

آفاق: هل هناك حسينيات في مصر، ومرجعيات دينية لشيعة مصر؟
النفيس: قلنا من قبل أن ليس لدينا أي مؤسسات لا حسينيات ولا مساجد. والمراجع متوفرون والحمد لله خارج مصر ويمكن لكل شخص أن يقلد من يقتنع بأعلميته من المراجع الموجودين وليس هناك حاجة لمرجع يحمل الجنسية المصرية.

والتقليد الفقهي لا يعني ولاء أو ارتباطا سياسيا ولنا مطلق الحق في اتخاذ الموقف السياسي الذي نعتقد بصحته دون استئذان أحد خارج مصر.

وأؤكد لك ألا أحد من المراجع يدعمنا لأنهم يخافون من ردة فعل النظام والوهابية ويكفي ما أحدثه القرضاوي من شغب للدلالة على أسباب هذا الخوف والتحفظ.

آفاق: لقد منعتم من نشر بعض الكتب التي قمتم بتأليفها فما هي هذه الكتب وما هو السبب وراء رفض نشرها في مصر؟
واقع الحال أن أي قرار بمنع كتبي من التداول لم يصدر. كانت هناك توصيات وتقارير أصدرها البعض ولكن لم يؤخذ بها ولم تتحول إلى قرارات.

القضية لا تتعلق بقرار مصادرة ليس له قيمة كبرى بل ويمكن أن يتحول إلى دعاية للكاتب والكتاب وهم لا يرغبون في تقديم هذه الدعاية لنا. القضية تتعلق بمناخ التعتيم الذي نتعرض له.

صدر لي حتى الآن ما يقارب العشرين كتاب عدا ما هو موجود ولم تتح الفرصة لطباعته. كلها من وجهة نظري تتناول قضايا فكرية كبرى يحتاجها الجمهور الذي يتلقى معلوماته التافهة الآن من فقهاء ميكي ماوس ومن دعاة الفضائيات وكلها ثقافة حشو بطن أي لا تسمن ولا تغني من جوع. هم يقولون أن الهيمنة الغربية هي السبب في تخلفنا.

في كتبي (المصريون والتشيع الممنوع) و(عندما يحكم العبيد) تحدثت عن التدمير الثقافي والحضاري الذي تعرضت له مصر على يد صلاح الدين الأيوبي وكيف أنه دمر مكتبة القاهرة التي حوت مليون وستمائة ألف كتاب وعشرات المخترعات التي سبقنا بها العالم قبل 800 عام من الآن وغيرها من الجرائم التي لا يتصورها عقل ومن بينها أنه هدم أهرامات الجيزة وأخذ أحجارها لبناء القلعة.

تحدثت في كتاب (عندما يحكم العبيد) عن ظاهرة لم تحدث في تاريخ أي أمة من الأمم وهي أن يُشترى العبيد ليقوموا بحكمها وكيف أن هذه الفترة التي طالت أكثر من 600 عام هي السبب في تخلفنا الثقافي والحضاري.

طبعا جماعة (هو كده) و(ما أريكم إلا ما أرى) لا يعجبها هذا الكلام لأنهم قالوا من قبل أن الغرب هو الذي أسقط الخلافة العثمانية من أجل القضاء على الإسلام وأن الغرب هو السبب في ابتعادنا عن الدين وهو تفسير يحظى بقبول النظام الحاكم لأنه يعفيه من المسئولية ويلقيها على عاتق غيره.

في كتاب (النبوة في نهج البلاغة) تحدثت عن انحراف المفاهيم والتصورات تجاه شخص النبي الأكرم وكيف أن بني أمية قدموه للناس كشخص تائه يحاول الانتحار ثلاث مرات وطبعا حورب الكتاب كما هو متوقع وجرى سحبه من الأسواق.

المعنى أنهم أصحاب مصلحة في استنفار العداء بين الإسلام والغرب وتصوير أنفسهم كمدافعين عن الإسلام والدين!!.

القضية إذا ليست قضية تبشير شيعي كما يحاول هؤلاء تقديم المسألة بل هي صراع حول المفاهيم وحول جوهر الإسلام.

تعليق أخير
قبل شهرين من الآن كانت هناك حملة مشابهة على الشيعة وكانت الذريعة هي فيلم إعدام الفرعون الذي أنتجته جهة معينة في إيران ولكن كالعادة جرى نسبة الأمر برمته لإيران والشيعة وهم أنفسهم الذين هللوا لأفلام روجر مور التي تنتقد الإدارة الأمريكية بشدة. الآن جرى استبدال المؤامرة الأمريكية بالمؤامرة الشيعية!!.

الشيعة لم يقتلوا السادات بل قتلته الجماعات الإسلامية التي تصطف الآن مع الشيخ القرضاوي في موقفه العدواني من الشيعة.

الأمر يتعلق بتوزيع أدوار كلما انطفأت معركة قامت أخرى والهدف الحقيقي هو إيجاد مناخ تحريضي لضرب إيران ومحو الشيعة من الوجود في كل مكان.

الغرب ارتكب خطيئة قاتلة عندما تحالف مع الوهابيين ومنحهم دولة انطلق منها هذا الفكر الإرهابي للعالم بأسره ثم عاد لارتكاب نفس الخطأ عندما تحالف معهم ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ومن ثم كان تنظيم القاعدة والحادي عشر من سبتمبر.
الآن يراهن نفس هؤلاء على جر أمريكا لحرب مع إيران على طريقة (اللهم أهلك الكافرين بالكافرين وأخرجنا من بين أيديهم سالمين غانمين حاكمين أبد الآبدين). في اعتقادي أن الإدارة الأمريكية سترتكب خطأ قاتلا هذه المرة لو أقدمت على شن هذه الحرب حتى ولو ربحت.

الأحد، سبتمبر 07، 2008

النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة الجزء 4 والأخير





مناقشة الأحاديث السابقة

حديث الغدير . . أشهر من أن يعرف ، رواه معظم أصحاب السنن إن لم نقل كلهم وصححوه ، ولقد ذكرنا في الصفحات السابقة موارد ذكر هذا الحديث في صحاح أهل السنة .

وواقعة
( غدير خم ) معروفة الزمان والمكان ، حديث أثناء عودة المسلمين من حج بيت الله الحرام فيما عرف بحجة الوداع قبيل موت رسول الله ( ص ) بقليل ، أي في العام العاشر للهجرة الموافق 631 ميلادي .

فإذا كانت الحجة عرفت بأنها حجة الوداع فكلمات رسول الله ( ص ) كانت وصية الوداع من رسول وصفة القرآن
: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) ، إنها كلمات
تحمل أقصى درجة من الأهمية والخطورة بالنسبة لمصير الأمة ومستقبلها ، هذه الوصية كانت بأمر الله سبحانه وتعالى وقد جاء في أسباب النزول للنيسابوري وغيره من المفسرين أن قوله تعالى
: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
) ( المائدة / 67 ) ، أنها نزلت يوم غدير خم ، وأن هذا التبليغ كان أمرا حيويا متمما ومكملا للرسالة الإسلامية ككل وإلا لما قال القرآن ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) . ما هذا الجزء الذي يكمل الكل فيجعله تاما ؟ .

توضيح كلمات الخطبة هذه المعاني فتقول
( ألا . إني أوشك أن أفارقكم وإني مسؤول ) . إذن فالرسالة في غاية الأهمية ، إنها المسؤولية أمام الله عن الثقلين كيف خلفتموني فيهما ؟ أول الثقلين أو الثقل الأكبر هو كتاب الله ، إذن القضية قضية منهج وليست قضية عاطفة ، إنه نبي يوشك أن يفارق أمته فيوصيهم لا بالأولاد كما يفعل عوام الناس ، ولا بتنمية ناله ، ولكن يوصيهم بالحفاظ على المنهج ، بل ويحدد لهم وسيلة الحفاظ على هذا المنهج ، إن هذا لا يكون إلا بمتابعة الثقلين : الكتاب والعترة ، اتباع منهج ، وقيادة ، لا على سبيل العاطفة أو المودة فحسب .

فناصر الكتاب وأهل البيت ناصر الرسول ، وخاذل الكتاب والعترة خاذل للرسول ، إنها وصية مركزة ومحدودة تحدد المنهج ، وهو الكتاب أو النص وتحدد القيادة وهي قيادة أهل البيت الأقدر على فهم النص وتطبيقه ، ومطابقة السلوك مع المنهج ، فكيف إذن يمر الناس على هذا الحديث المتواتر مرور الكرام ؟ وإذا اضطروا لإثبات الفهم لجؤوا إلى تمييع الأفهام فيقولون
: ( ولا ننكر الوصاة بهم ) وهل كان رسول الله ( ص ) في حاجة إلى أن يجمع المسلمين في هذا الموضع ليوصيهم بذريته وحسب ؟ ، لا نظن هذا . ثم يلجأ الرسول الأكرم ( ص ) إلى مزيد من التحديد حينما يطرح ولاية أمير المؤمنين ( ع ) بصورة واضحة ومحدودة فيقول : ( من كنت وليه فهذا وليه ) ( 1 ) .

يقول بعض الباحثين : إن هذا الكلام لا يعني ولاية الأمر أو قيادة الأمة وإنما يعني النصرة والمحبة ، وهذا كلام عجيب ، فماذا كانت تعني ولاية رسول الله للأمة ؟ .

ألم تكن ولاية التشريع والقيادة
( من كنت مولاة فهذا مولاه ( 2 ) ، إنها ولاية من ولاية ، إنها من نفس الجنس والنوع والمعنى ، وليس هناك أي دليل أو قرينة لغوية تفصل بين الولايتين ، بل على العكس إنها قضية الامتداد تطرح في وقتها الملائم ( إني أوشك أن أفارقكم - من كنت مولاه فعلي مولاه ) .

بقي أن نقول إن هناك معنى عظيما في هذا الحديث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) ، هذا المعنى هو أن هذه القيادة وإن غيبت ، فإنها لا تغيب بل وستبقى حاصرة في دين المسلمين ، إنها حاضرة حضور الكتاب في دنيا الناس حتى آخر الدنيا ، ثم إن هذه القيادة تحتفظ بصوابية
الكتاب الكريم نفسها ، إذ العترة عدل الكتاب ورفيقته في الطريق الحق ، وحاشا لكليهما من الزيغ والضلال .



* ( هامش ) *
( 1 ) المصدر السابق ، 1 / 63 - 64 .
( 2 ) أنظر مصادر هذه الأحاديث من كتب وصحاح أهل السنة في الصفحات السابقة . ( * )


ومن عجيب أن رواية الترمذي عن خطبة رسول الله ( ص ) في حجة الوداع ، وهي رواية تفرد بها تحمل المعنى نفسه بل النص والوصية نفسيهما
( تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) ، لقد كان رسول الله ( ص ) حريصا على أن يكرر الوصية نفسها في مسافة زمنية متقاربة .

وفي وسط أكبر عدد من جموع المسلمين اجتمعت في حجة الوداع ، ثم كان حديثه في
( غدير الجحفة ) تفصيلا وتأكيدا لوصيته يوم عرفة ، ثم إنها فوق كل هذا وصية مودع وصية ( رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) .

أما ( حديث المنزلة ) وقد قاله رسول الله ( ص ) ، قبيل مغادرته المدينة إلى غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة ، 630 ميلادي ، وتبوك موضع في شمالي جزيرة العرب ، ولما انطلق النبي ( ص ) إلى الغزو ، استخلف عليا
( ع ) على المدينة فكانت هذه الكلمات
: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ) ، فماذا كانت منزلة هارون من موسى ؟ فلنقرأ القرآن : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) ( الأعراف / 142 ) . إذا لقد كانت منزلة هارون من موسى هي منزلة الخلافة على الأمة ( اخلفني في قومي ) .

ثم نص القرآن على واجبات الخلافة ( وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) .

وهل كان اختيار رسول الله ( ص ) للإمام علي ( ع ) لحمل آيات البراءة مجرد مصادفة خاصة ، وأنه ( ص ) كان قد أرسل غيره حاملا للرسالة ثم نزعها منه وأعطاها للإمام ؟ ، لقد كانت رسالة البراءة كما يلي : ( أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله ( ص ) فهو إلى مدته ) .

إن هذه المهمة التي أرسل فيها أمير المؤمنين علي ( ع ) هي من مهمات ( القيادة العليا ) بالتعبير السياسي الحديث مهمة إبرام المعاهدات أو نقضها ، مهمة وضع سيادة الدولة الإسلامية في إطارها النهائي ، ومن ثم كان اختيار الإمام علي لهذه المهمة متلائما مع دوره المقبل في قيادة الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة ، وإنه في هذه اللحظة كان يمثل ما تعارف عليه الناس بمصطلح ( النائب الأول ) ، وهذا المعنى واضح في كلمات الرسول ( ص ) : ( لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ) أما حديث السفينة فهو يحمل المعنى نفسه الوارد في حديث الثقلين ، إنه يرتبط بين النجاة وبين التمسك بمنهج أهل البيت ( ع ) وولايتهم : ( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ) ، وهل كان ركوب سفينة نوح متاحا للمؤمنين والكفار أم أنه كان متاحا للمؤمنين من الصابرين دون غيرهم من المعاندين ؟ .

إنها كانت هدية الله لمن آمنوا وصدقوا
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ) ( هود / 40 - 41 ) ، إنها سفينة النجاة تسير بأمر الله مجراها ومرساها لا بأهواء الناس ولا بضحالة علمهم ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ( هود / 42 ) ، ثم هي بعد ذلك الوسيلة الوحيدة للنجاة من مهالك الدنيا والآخرة .

ويبقى ، بعد هذا ، حديث مدينة العلم ، هذا الحديث الذي شبه فيه الرسول ( ص ) علمه بالمدينة التي لا تؤتى إلا من بابها ، وبابها هو أمير المؤمنين علي ( ع ) ، ولطالما استعصى علي فهم قوله تعالى
: ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) ( البقرة / 189 ) ، هل نزلت هذه الآية لتعالج مشكلة تسلق أسوار البيوت فحسب ؟ ، ربما ، ولكني لا أظن أن مثل هذه الظاهرة تكفي وحدها لتعطينا مدلولا قاطعا مانعا يمنع انطباق مدلول هذه الآية على أية قضية أخرى . إن المدلول الأخطر والأهم هو تنظيم الهيئة الاجتماعية ، ووضع القيادة العلمية للأمة في موضعها الصحيح ، وهو موضع الباب ، وعلى كل من يريد الدخول أن يمر عبر الطريق الطبيعي وهو الباب ، فإذا لم يكن للمدرسة أسوار وأصبح الدخول مفتوحا لكل من هب ودب ، فإن هذا عين الفوضى الاجتماعية والعلمية والأخلاقية ، ثم وجدت ضالتي في كلمات الإمام علي ( ع ) : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا ) ( 1 ) .


* ( هامش ) *
( 1 ) أنظر ص ( 57 ) من هذا البحث . ( * )





قضية الإمامة في كتب السنة


قلنا ، من قبل ، إننا سنقدم ما نعتقد أنه الصورة الحقيقية لقضية الإمامة . ولكي نتمكن من تقديم هذا التصور ، كان علينا ألا نقيد أنفسنا بما أورده أصحاب السنن في فصل الإمامة ، وألا نتقيد بمصدر واحد ، وإنما علينا أن نفتش في مصادر السنة المختلفة المتاحة لدينا .

وقلنا أيضا إننا سنلتزم بالقواعد القرآنية المحكمة التي لا يأتيها الباطل ، وخاصة قاعدة الاصطفاء الإلهي وأن حمل أمانة الدين والدنيا محصور في ذرية الأنبياء والهم لا غيرهم ، إلا إذا قام لدينا دليل قاطع يقول غير هذا الكلام ، ولا نظن أن رواية مكذوبة منسوبة إلى الرسول الأكرم تصلح لأن ترد صريح القرآن .

وهناك أيضا ملاحظة هامة ، وهي أننا لن نتعرض لأسانيد الأحاديث ، ورجالها ، ورواتها ، فمعظم الأحاديث التي سنوردها قد فرغ فيها القول وحققت وأصبحت أسانيدها مقطوع بصحتها .

كما لن نحرص على استقصاء كميع الروايات المتعلقة بالمسألة فإن هذا الأمر يطول ، وإنما سنركز على هدد قليل من الروايات التي ذكرتها كتب أهل السنة وصحاحهم ، تقودنا إلى ما نريد
.

1 - حديث الغدير . أخرج أصحاب السنن ، واللفظة لابن المغازلي عن زيد بن أرقم قال : ( أقبل نبي الله من مكة في حجة الوداع حتى نزل بغدير الجحفة بين مكة والمدينة ، فأمر بالدوحات فقم ما تحتهن من شوك ، ثم نادى الصلاة جامعة ، فخرجنا إلى رسول الله ( ص ) في يوم شديد الحر وإن منا لمن يضع رداء ه على رأسه وبعضه على قدميه من شدة الرمضاء حتى انتهينا إلى رسول الله ( ص ) ، فصلى بنا الظهر ثم انصرف إلينا فقال : الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله .

أما بعد ، أيها الناس فإنه لم يكن لنبي من العمر إلا نصف عمر من قبله وإن عيسى بن مريم لبث في قومه أربعين سنة وإني قد أسرعت في العشرين ، ألا
وإني أوشك أن أفارقكم ، ألا وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فهل بلغتكم فماذا أنتم قائلون ؟ فقام من كل ناحية من القوم مجيب يقولون : نشهد أنك عبد الله ورسوله قد بلغت رسالته وجاهدت في سبيله وصدعت بأمره وعبدته حتى أتاك اليقين ، جزاك الله عنا خير ما جازى نبيا عن أمته . فقال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وتؤمنون بالكتاب كله ؟ قالوا : بلى . قال: فإني أشهد أن صدقتكم وصدقتموني ألا وإني فرطكم وأنكم تبعي توشكون أن تردوا علي الحوض فأسألكم حتى تلقوني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما . فأعيل علينا ما ندري ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين قال : بأبي أنت وأمي يا نبي الله ما
الثقلان ؟ فقال ( ص )
: الأكبر منهما كتاب الله تعالى سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به ولا تضلوا ، والأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي وأجاب دعوتي فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم فإني قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني ناصرهما لي ناصر ، وخاذلهما لي خاذل ، ووليهما لي ولي وعدوهما لي عدو ، ألا وإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تتدين بأهوائها تتظاهر على نبوتها وتقتل من قام بالقسط . ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها ثم قال : من كنت مولاه فهذا مولاه ومن كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالها ثلاثا ) ( 1 )


* ( هامش ) *
( 1 ) للتوسع في مصادر حديث الغدير ، أنظر : - سنن الترمذي : 2 / 298 دار إحياء التراث العربي - بيروت ( غير مؤرخ ) . - سنن ابن ماجة : 1 / 43 حديث رقم 116 . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار الفكر - بيروت . - المستدرك على الصحيحين 3 / 109 ، 533 دار الكتب العلمية - بيروت 1411 ه‍ . - مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 دار الفكر - بيروت . ( * )

2 - خطبة حجة الوداع روى الترمذي ، في الباب ( 32 ) ، تحت عنوان ( مناقب أهل بيت النبي ( ص ) ، حديث رقم ( 3786 ) ، بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : ( رأيت رسول الله ( ص ) في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : أيها الناس إني تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تظلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ( 1 ) .

وفي حديث رقم ( 3788 ) للترمذي أيضا عن زيد بن أرقم قال : ( قال رسول الله ( ص ) : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض . وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلوني فيهما ) ( 2 ) .

3 - حديث المنزلة روى البخاري وغيره من أصحاب السنن عن رسول الله ( ص ) ، أنه قال لعلي بن أبي طالب : ( أنت مني بمنزلة هارون

* ( هامش ) *
( 1 ) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي : الجامع الصحيح ، 5 / 621 . دار الكتب العلمية - بيروت 1408 ه‍ / 1987 م .
( 2 ) المصدر نفسه ، 5 / 622 . ( * )

من موسى غبر أنه لا نبي بعدي ( 1 ) .

4 - حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها روى ابن المغازلي الشافعي عن جابر بن عبد الله قال : ( أخذ النبي ( ص ) بعض علي فقال : هذا أمير البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله . ثم مد بها صوته فقال : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .

وأخرجه الحاكم بهذا السند في مستدرك على الصحيحين : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .

كما روى ابن المغازلي الشافعي عن جرير عن علي قال : ( قال رسول الله ( ص ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ) ( 2 )

* ( هامش ) *
( 1 ) روي هذا الحديث بهذا المعنى ، وبألفاظ مختلفة في المصادر التالية : - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، 7 / 453 ط . دار الكتب العلمية - بيروت - كنز العمال للمتقي الهندي ، 6 / 395 . - مسند أحمد بن حنبل ، 1 / 170 و / 369 دار الفكر - بيروت - صحيح مسلم ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، 5 / 23 حديث رقم 2404 . - صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ، باب غزوة تبوك ، حديث رقم 3503 .
( 2 ) أنظر : الجامع الصحيح للترمذي ، 5 / 596 حديث رقم 3723 . دار الكتب = ( * )

5 - حديث براءة روى ابن كثير ، في تفسيره : ( تفسير القرآن العظيم ) ، عن الإمام أحمد عن أنس بن مالك : ( أن رسول الله ( ص ) بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعثها مع علي بن أبي طالب ) ( 1 ) .

ورواه الترمذي في التفسير ، وقال عبد الله بن حنبل عن علي : ( لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ( ص ) ، دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم . فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبكر إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ فقال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل من منك ) .

وروى عبد الله أيضا عن علي : ( أن رسول الله ( ص ) قال لي : لا بد أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت . فقال : فإن كان ولا بد فسأذهب بها أنا . قال : إنطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك . قال : ثم وضع يده على فيه ) . وروى ابن كثير أيضا عن إسرائيل عن زيد بن يثيغ : ( لما رجع أبو بكر قال : نزل في

* ( هامش ) *
= العلمية - بيروت 1408 ه‍ / 1987 م . - المستدرك على الصحيحين النيسابوري 3 / 137 حديث رقم 4637 و 4637 و 4638 - دار الكتب العلمية - بيروت 1411 ه‍ .
( 1 ) ابن كثير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ، 2 / 496 م . س ( * )

شئ ؟ . قال ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي ) وروى أيضا : ( لما نزلت براءة قال رسول الله ( ص ) : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ) ( 1 ) .

( إن الله تعالى عهد إلي عهدا في علي فقلت يا رب بينه لي ، فقال : إسمع ، فقلت : سمعت ، فقال : إن عليا راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه أحبني ، ومنم أبغضه أبغضني . فبشره
بذلك . فجاء علي فبشرته . فقال : يا رسول الله أنا عبد الله ، وفي قبضته فإن يعذبني فبذنبي ، وإن يتم لي الذي بشرتني به فالله أولى بي . قال : قلت : اللهم أجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان ، فقال الله : قد فعلت به ذلك ، ثم إنه رفع إلي أنه
سيخصه من البلاء بشئ لم يخص به أحدا من أصحابي . فقلت : يا رب أخي وصاحبي . فقال : إن هذا شئ قد سبق أنه مبتلى به
) ( 2 )

6 - أحاديث أخرى حديث . . ( من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيبة من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ، ثم قال لها : كوني

* ( هامش ) *
( 1 ) ابن كثير : م . س . طباعة دار الكتب العلمية بيروت ( غير مؤرخ ) .
( 2 ) أبو نعيم الأصفهاني في حلبة الأولياء 1 / 86 . ( * )



فكانت ، فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب ) . رواه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ( 1 ) ورواه أحمد بن حنبل في المسند . حديث . . ( والذي نفسي بيده ، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت مقالا لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة ) رواه أحمد في المسند . حديث . . قال رسول الله ( ص ) : ( يا أنس اسكب لي وضوءا ، ثم قام فصلى ركعتين وثم قال : يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين .

قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته ، إذ جاء علي فقال ( ص ) : من هذا يا أنس ؟ فقلت : علي . فقام مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق علي بوجهه . قال علي : يا رسول الله لقد رأيتك تصنع شيئا ما صنعت بي من قبل ؟ قال : وما يمنعني وأنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي
) حديث . . ( من سوره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنه عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما ، فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي )

* ( هامش ) *
( 1 ) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1 / 66 . ط . دار الكتب العلمية - بيروت ( غير مؤرخ ) . ( * )

النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة الجزء 2






الإمامة ضرورة قرآنية



الإمامة ضرورة قرآنية جاء الحديث عن الإمامة ، في القرآن الكريم ، في غير موضع ، ومنها : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ( البقرة / 124 ) .

( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ( الفرقان / 74 ) .

( يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) ( الإسراء / 71 ) .

( فقالوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) ( التوبة / 12 ) .

( وجعلناهم أئمة يهتدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) ( الأنبياء / 73 ) .

( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ( القصص / 5 ) .

( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ( السجدة / 24 ) .

إن الآيات السابقة تدلنا على عدة مفاهيم قرآنية :

أولا . . وجود نوعين من الإمامة ، إمامة الحق وإمامة الضلالة .

ثانيا . . أن أئمة الحق مختارون من عند الله ( وجعلنا منهم أئمة ) ، ( قال إني جاعلك للناس إماما ) .

ثالثا . . أن أئمة الحق يهدون ويحكون بأمر الله ، لا بأهوائهم ولا باجتهادهم ولا بفهم يصيب ويخطئ ( يهدون بأمرنا ) .

رابعا . . أن الناس يحشرون يوم القيامة تبعا لأئمتهم إما إلى الجنة ، أو إلى النار ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) .

قاعدة الاصطفاء الإلهي لقد خضعت الرسالات السماوية لعدة قوانين ربانية ، سواء في ما يتعلق بشخصية الرسل ( ع ) أو في ما يتعلق بمسار الدعوة وقبول الأمم لها أو رفضها ، أو التاريخ الطبيعي للأمة بعد الاستجابة لرسل الله وصدق الله العظيم ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ( الأحقاف / 9 ) ، ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الأسير / 77 ) ، وقوله ( ص ) : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ) وإحدى أهم هذه القواعد هي قاعدة الاصطفاء أو الاجتباء - إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم آل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) ( آل عمران / 33 - 34 ) ، ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) ( ص / 47 ) ، ( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) ( الأنعام / 87 ) ، ( سلام على إل ياسين ) ( الصافات / 130 ) ، ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) ( هود / 73 ) إن هذه القاعدة تعني أن شخصيات الرسل أو الأئمة ، كما أسلفنا ، إنما هي شخصيات معدة ومنتقاة سلفا والناس في عالم الذر ، وأن هذه النطف الطاهر قد انتقلت من رحم مؤمنة طاهرة إلى رحم مؤمنة طاهرة ، من دون أن تمر على أرحام المشركين أو أصلابهم ، ولم يحدث أن اصطفى رب العزة واحدا من عامة الناس للقيام بهذه المهمة .

أو أنها قد انتقلت من يد نبي إلى أحد من صحابته ، وإنما هي تجري في إطار الذرية والآل
، ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) ( الحديد / 26 ) ،

( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) ( النساء / 54 ) .

إننا لسنا في حاجة إلى أن نؤكد عمومية القواعد السابقة وانطباقها على محمد وآل محمد .

وحسبنا صيغة الصلاة الإبراهيمية التي نقولها في كل صلاة
: ( اللهم صل على محمد وآل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) .

إننا نؤكد على ثبات حقيقتين تنطلقان من قاعدة الاصطفاء . .

الحقيقة الأولى : أن اختيار الرسل والأئمة عليهم الصلاة والسلام محصور في ذرية الرسل والأنبياء ( ذرية بعضها من بعض ) ( آل عمران / 34 ) ، وأن مخالفة هذه القاعدة بالادعاء بأن هذا الاختيار يمتد إلى عموم أصحاب أي نبي ، أو إلى عامة أمته ، هو تعسف لا يقوم علية أي دليل .

الحقيقة الثانية : أن هذا الاصطفاء قد انتقل إلى النبي محمد وأل بيته عليهم الصلاة وأتم السلام تطابقا مع قوله تعالى : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الإسراء / 77 ) ، فالنبي محمد وآله في الدرجة الرفيعة من آل إبراهيم ، وقد خصهم ربنا عز وجل بالمدح في غير موضع من القرآن الكريم ، ولنضرب بعض الأمثلة على هذا . .

1 - آية التطهير قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( الأحزاب / 33 ) .

أورد ابن كثير في تفسيره برواية الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت : ( أن النبي ( ص ) كان في بيتها فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة ( 1 ) فيها خزيرة ( 2 ) فدخلت عليه بها . فقال ( ص ) لها : ادعي زوجك وابنيك . فقالت : فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من الخزيرة ، وهو على منامة له وكان تحته ( ص ) كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي فأنزل الله عز وجل هذه الآية : ( إنما



* ( هامش ) *
( 1 ) البرمة : القدر من الحجر .
( 2 ) يقول ابن منظور في شرح معنى الخزيرة مادة ( خزر ) : ( اللحم الغاب يؤخذ فيقطع صغارا في القدر ، ثم يطبخ بالماء الكثير والملح ، فإذا أميت طبخا ذر عليه الدقيق فعصد به ، ثم أدم بأي أدام شئ ) ( * )




يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ، قالت رضي الله عنها : فأخذ ( ص ) فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فأوى بها إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . قالت : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ فقال ( ص ) ( إنك إلى خير إنك إلى خير ) ( 1 )

وقد أورد بن كثير ، في كتابه ( تفسير القرآن العظيم ) ست عشرة رواية بهذا المعنى أو نحوه في تفسير هذه الآية بما يقطع بصحة هذا التأويل ، ونزول الآية في آل بيت النبوة ( ع ) خاصة من دون غيرهم ، وهذا يقطع بصحة ما نعتقده من أن منزلة آل محمد كمنزلة آل إبراهيم سواء في فضلهم أم في دورهم ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) ( النساء / 54 ) .


2 - آية المودة في القربى قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ( الشورى / 23 ) ،

أخرج ابن كثير في تفسيره عن البخاري وغيرة عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال : ( معنى ذلك أن تودوني



* ( هامش ) *
( 1 ) الإمام أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي : تفسير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ، 3 / 5 85 دار الفكر - بيروت 1414 ه‍ / 1994 م . ( * )


في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم ) ( 1 )

وقال السدي عن أبي الديلم قال : ( لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا على درج دمشق ، قام رجل منم أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة . فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن ؟ . قال : نعم . قال : أقرأت ال‍ ( حم ) ؟ . قال قرأت القرآن ولم أقرأ أل حم ) ؟ قال : وإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم ) ( 2 ) .

إننا ، وعند هذه النقطة من البحث بحاجة إلى أن نتوقف لمراجعة التصور الإجمالي لقضية الإمامة قبل أن ننتقل إلى مرحلة التحديد والقطع باستنتاجات محدودة . .

أولا . . إن قضية الإمامة ، على خطورتها القصوى ، لم تعالج بصورة متجردة ، وإنما عولجت في إطار محاولة إخضاع النصوص للواقع السياسي المفروض على الأمة المسلمة ، وخاصة وأن هذه القضية تمس شرعية النظم السياسية التي حكمت المسلمين في الصميم ، وإن أي محاولة لاستنطاق النص بصورة واضحة كانت تمثل جريمة ( محاولة قلب نظام الحكم ) ، وهو ما كان يسمى آنئذ



* ( هامش ) *
( 1 ) الإمام أبي الفداء ابن كثير الدمشقي تفسير القرآن العظيم 4 / 136 .
( 2 ) ابن كثير ، تفسير القرآن الكريم ، 4 / 137 . م س . ( * )



شق عصا الطاعة ومفارقة الجماعة ، خاصة وأن حكم الأمس كانوا أحرص ما يكونون على إلقاء غلالة رقيقة من الانتساب إلى الإسلام

ثانيا . . ( الاسقاط العمدي ) لبعض النصوص كهذه التي وردت عن الإمام الحسين ( ع ) أثناء مواجهة جبابرة بني أمية ، أو تلك الواردة عن الإمام الحسن ( ع ) تفتح باب التساؤل عن المصلحة الكامنة وراء هذا ، فلا يمكن أن يتعلل أصحاب السنن بعلة ضعف الأسانيد مثلا ، فلا يعقل أن حادثا جليلا بهذا الشكل مر على الأمة مرور الكرام من دون أن تسجل فيه خطبة من خطب الإمام الحسين أو استناد منه إلى كتاب الله وسنة رسوله في هذه المواقف المصرية الفارقة بين الحق والباطل .

ثالثا . . الإثبات المنحاز لبعض النصوص ، فعلى فرض صحتها فإنها لا ترقى إلى مستوى النص الشرعي الملزم لجمهور المسلمين ، وخير شاهد إثبات بيعة عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان أو إنكاره لخروج أهل المدينة من صحابة رسول الله ( ص ) من المهاجرين والأنصار على يزيد السكير ، ووصفه لهم بالغدر والخيانة .

رابعا . . إفتقار النصوص المطروحة للتناسق والوضوح ، يقطع بأن هناك حلقة مفقودة لا بد من البحث عنها وإثباتها .

خامسا . . إنقطاع العلاقة بين بعض النصوص المطروحة وبين التصور القرآني لدور الأمة الإسلامية ، وخاصة ذلك التناقض الغريب بين محاولة إسباغ الشرعية على سلاطين الجور الغاصبين للخلافة وبين طبيعة الرسالة الإسلامية وحرصها على إقامة العدل ومحاربة الاستكبار ونصرة المستضعفين ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ( القصص / 5 ) .

سادسا . . افتقاد الترابط بين بعض النصوص المطروحة في كتب السنة وقانون الاصطفاء الإلهي كما ذكرنا في الصفحات السابقة من هذا الكتيب .

النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة





النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة


أولا ، رؤية نقدية لمرويات أهل السنة في هذا الموضوع ، ثانيا قراءة عقلية للنص القرآني والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة .

على طريق الإمامة في الصميم لم تكن قضية الإمامة تحظى بقدر كبير من الاهتمام في صفوف الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي ، بيد أن قيام الثورة الإسلامية في إيران ، بقيادة آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني ( رحمه الله ) ، قد ألقى عدة أحجار في البحيرة الراكدة ، وفرض على الكثير من العلماء والمفكرين وأصحاب القلم إعادة التفكير والنظر في مسلمات الأمس القريب ، في حين اختار بعضهم موقف المعاداة لكل ما جهلوا ، وصدق الله العلي العظيم ، حيث يقول : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) ( يونس / 39 ) .

وهناك من قام بإعمال فكره وعقله في النصوص وفي الواقع ، بهدف الحصول على الحقيقة بغض النظر عن الاستنتاج النهائي ، وبغض النظر عن قوى الواقع التي تمارس بشكل عملي الأسلوب الذي تتحدث عنه الآية القرآنية المباركة وتذمه ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) ( الزخرف / 22 ) . تمارس تلك القوى ذلك من دون أن تعلنه باللسان .

على أن قضية ( الإمامة ) ، وإن تعددت الدراسات حولها وكثرت إلا أن غالبية ما كتب لم يكن ليكتب في إطار عقلي ، بل إن السائد أن كل طرف يأتي بما يؤيد وجهة نظره من الروايات ، ويتحدث عن أسانيدها ورواتها ووثاقتهم ، الأمر الذي دفعني لاستخدام المنطق العقلي في هذه الدراسة لأن ما يتناقض مع العقل هو المستحيل بعينه وهو المرفوض دراية ومن ثم رواية ، من دون ما حاجة لسرد أسماء الرواة والمحدثين ، وما يتفق مع العقل ينبغي قوله والتسليم به ، لأن أحكام الدين وشرائعه تتكامل ولا تتناقض ، وما نعنيه بالعقل هنا هو عرض أدلة المسائل الفردية على الأدلة الكلية ، الجامعة .

فإذا كان الله تبارك وتعالى : ( إن الله يأمر بالعدل ) ( النحل / 90 ) ، فلا يعقل أن يأمر بطاعة ( فاقد العقل ) ، وإلا لأمر سبحانه بالشئ وضده ( العدل - الجور ) . وهذا محال على الله سبحانه وتعالى .

وإلى جانب إيماننا بذلك ، فإننا نؤمن بالتكامل في الشريعة الإسلامية الغراء ، بمعنى أن قواعد الإسلام العظيم مرتبة بعضها على بعض ، فالقرآن الكريم تحدث عدة مرات عن قاعدة ( الإصطفاء ) ، وأنها محصورة في الذرية والآل ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين ) ( آل عمران / 33 ) .

ثم نص سبحانه وتعالى على تحميل هؤلاء المصطفين الأبرار مسؤولية هداية البشر ، وتعريفها بالحق ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ( فاطر / 31 - 32 ) .

وهذه قاعدة عامة لم تشذ عنها أمة من الأمم ، فلماذا تشذ الأمة الإسلامية ؟ ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ( الأحقاف / 9 ) .

وأخيرا : هناك قضية حجية السنة ( 1 ) ؟ فالمعارضون لمدرسة أهل البيت ( ع ) ، حينما تضيق بهم السبل يلجأون إلى حجة في غاية الغرابة ، وهي الدفع بعدم ورود إمامة أهل البيت ( ع ) وخلافتهم للنبي ( ص ) في القرآن الكريم ، وهو ما لا سبيل إلى القبول بمناقشته ونحن نعلم أن حجية السنة المتواترة تماما كحجية الكتاب ، فصاحب السنة هو ملتقي الوحي من رب السماوات والأرض ولعنة الله على من كذب على رسول الله ( ص ) ، وليموه على الناس دينهم ، وهذا الكذب هو الذي أدى إلى إلقاء بعض الظلال على حجية السنة المطهرة ، وهي أوامر الله ونواهيه التي جاء بها النبي المعصوم محمد ( ص ) ، والتشكيك في حجية السنة لا يختلف في شئ عن التشكيك في حجية القرآن .



* ( هامش ) *
( 1 ) يعرف علماء أصول الفقه الحجة بأنها : ( كل شئ يكشف عن شئ آخر ، ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له ) . أما السنة فهي ( قول المعصوم أو فعله أو تقريره ) . للتوسع أنظر : أحمد البهادلي : مفتاح الوصول إلى علم الأصول ، 2 / 31 . ( * )

نقول أيضا : إن انتقال النبي محمد ( ص ) إلى الرفيق الأعلى عام ( 11 ه‍ / 632 م ) كان من المفترض أن يصاحبه انتقال السلطة والنظرية إلى يد أمينة قادرة على التعبير عن الأمرين وجعل السلطة والقوة في خدمة النظرية وليس العكس أن تكون النظرية في خدمة السلطة فتتشكل النظرية وفقا لقدرات أصحاب السلطة الذهنية والعقلية ولمدى أمانتهم في التطبيق ، ومن هنا كان عهد النبي الأكرم لعلي سلام الله علية يوم غدير خم بقوله : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ( 1 ) ، وقوله يوم سار النبي ( ص ) إلى غزوة تبوك وكانت يومها الدولة قائمة : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) ( 2 )

* ( هامش ) *
( 1 ) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير ، وقد روي في صحاح أهل السنة بألفاظ متقاربة ، ومعنى واحد ، أنظر : سنن الترمذي 2 / 298 . مطبعة بولاق - مصر 1292 ه‍ .
سنن ابن ماجة ص 12 . مطبعة الفاروقي - دهلي ( غير مؤرخ ) .
مستدرك الصحيحين 3 / 1098 و 533 . مطبعة حيدر آباد - الدكن 1324 ه‍ .
مسند أحمد بن حنبل 1 / 48 ، المطبعة الميمنية - مصر 1313 ه‍
الخصائص للنسائي ص 22 و 40 مطبعة التقدم العلمية - مصر 1348 ه‍
الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ص 93 . طباعة الفتوح الأدبية 1331 ه‍ .
( 2 ) روي هذا الحديث في : - صحيح البخاري ( كتاب بدء الخلق ، باب غزوة تبوك ) 3 / 1359 ، حديث = ( * )


ولكن الذي حدث كان غير ذلك ، فالخلافة النبوية انتقلت إلى من انتقلت إليه برأي بعض المسلمين وليس بالنص ، وأولئك الخلفاء تفاوتت قدراتهم في استيعاب النصوص ومعرفتها ومن ثم تعبيرهم عن النظرية ، وإن أمسكوا بالسلطة في أيديهم ، وكانت ثمرة الخلفاء الثلاثة الأول أن انتقال السلطة إلى الإمام علي ( ع ) لم يكن انتقالا هادئا ولا مستقرا إلى ( إمام منصوب من الله عز وجل ) ما أسهم في تفلت خيوط القوة من بين يديه ووصولها غنيمة باردة إلى بني أمية بقيادة ابن ( آكلة الأكباد ) ( 1 ) ، وهو انتقال رسخ الوضع الآتي :

1 - سلطة لم تستمد قوتها من شرعية إلهية ، وإنما من الغضب والعدوان ، وهو ما عبر عنه معاوية في خطاب تسلم السلطة ( إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ،



* ( هامش ) *
= 3503 ، المطبعة الخيرية . مصر 1320 ه‍ . - صحيح مسلم ( كتاب فضائل الصحابة ) 5 / 23 حديث 2404 . طباعة بولاق 1290 ه‍ -
مسند ابن حنبل 1 / 722 حديث 1466 . المطبعة الميمنية / مصر 1413 ه‍ .
( 1 ) آكلة الأكباد هي هند بنت عتبة ، أم معاوية بنت أبي سفيان سميت بآكلة الأكباد لأنها بقرت بطن ( حمزة ) عم النبي وأخرجت كبده ولاكته ، وذلك في معركة ( أحد ) التي دارت بين المسلمين ومشركي قريش بقيادة أبي سفيان ، فجرح الرسول فيها ، وقتل عمه حمزة ، وذلك سنة 3 ه‍ / 625 م . ( * )



ولا لتزكوا ، إنكم تفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ) ( 1 ) .

2 - نظرية يفترض أنها ( الإسلام ) ، ولكنه من الناحية الواقعية ( الإسلام الأسير ) في أيدي أقوام جعلوا إحدى شعائر صلاة الجمعة لعن أمير المؤمنين علي ( ع ) على المنابر ، وهذه مسألة متواترة ناهيك عن باقي موبقاتهم وجرائمهم .

في ظل هذا الواقع السلطوي ، والنظرية الإسلامية التي تتلقى الطعنات صباح مساء من أصحاب السلطة ، صيغت نظريات السلطة ، ووردت الروايات ودونت

الكتب ، فكتب الصحاح التي يتحدثون عنها كتبت بعد قرنين من رحيل النبي الأكرم ( ص ) ، ولذا جاءت مدونات هذه الكتب خليطا من النصوص المبتورة

عن مواضعها على الرغم من صحتها ، وتلك النصوص المكذوبة على رسول الله ( ص ) ، وتلك النصوص المنتقاة لبعض الأشخاص أصحاب المواقف المتمشية مع أهواء كل النظم الحاكمة إلى يومنا هذا .

والأهم من هذا وذاك تلك المساحات البيضاء التي تركت



* ( هامش ) *
( 1 ) أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبين ص 77 : ط . الأعلمي ، بيروت - لبنان ( 1408 ه‍ / 1987 م ) . وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 4 / 16 ، ط . دار الهدى الوطنية ، بيروت - لبنان ( غير مؤرخ ) ( * )



فارغة ولم يدرون شئ بشأنها في كتب ( الأحاديث ) واقتصر تدوينها على كتب التاريخ ، ولذا فإننا سنقوم بتجميع بعض هذه النصوص والتعليق عليها ، سعيا لإيضاح الحقيقة ، والانتصار للحق .

حدود الإمامة يقول الإمام علي ( ع ) : ( لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في أمرته المؤمن ) ( 1 ) .

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج : ( فأما طريق وجوب الإمامة ما هي ، فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع ، وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين : إن العقل يدل على وجوب الرئاسة ، وهو قول الإمامية .

إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب منه الإمامية الرئاسة ، وذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين من حيث أن

في الرئاسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية ، والإمامية يوجبون الرئاسة من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية ) .

وأيا كان طريق وجوب الإمامة أو الإمرة فالحقيقة أنها واجبة



* ( هامش ) *
( 1 ) كاظم محمدي / محمد دشتي : المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة ، خطبة ( 40 ) ص 24 . دار الأضواء - بيروت ( 1406 ه‍ / 1986 م ) . ( * )



ولكن هناك تباين حول الوجه الذي يوجب الإمامة ، هل هو قاصر أو مرتكز على حفظ المصالح الدنيوية ، أم أن المسألة أعمق وأشمل من وأنها كما يرى المسلمون الإمامية لطف من الله وبعد للمكلفين عن ممارسة القبائح العقلية ( 1 )

وفي اعتقادنا أن طبيعة الرئاسة أو الإمرة وهل هي معنية أساسا بحفظ المصالح الدنيوية أم أنها ينبغي أن تكون أكثر اعتناء بحفظ المصالح الدينية ، هذه الطبيعة تفاوتت بتفاوت الأمة موضع الرئاسة وطبيعة الرسالة التي تحملها هذه الأمة ، وبالتالي فإن مهام الرئاسة في الأمة الإسلامية لا يمكن أن تتشابه مع مهام الرئاسة في الأمة الأمريكية مثلا ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ص / 28 ) .

ومن هنا فإننا نرى أن طبيعة رئاسة الأمة الإسلامية تكتسي وتعنون بالعناوين المدونة في كتاب الله وفي سنة رسول الله ( ص ) نفسها ، وأن المواصفات المطلوبة في إمامة الأمة الإسلامية هي القدوة على حمل هذه الأعباء ، وأن أي خلل في قدرات القيادة المسلمة على أداء هذه المهام الجسام تطرح العديد من التساؤلات حول أهلية هذه القيادة وأحقيتها لهذا الدور ، ودونكم بعض الأمثلة من كتاب الله :



* ( هامش ) *
( 1 ) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 4 / 16 . م . س . ( * )



( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) ( النحل / 90 ) .

( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( ص / 26 ) .

( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( التوبة / 29 ) .

( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر / 9 ) .

إن إقامة العدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنهي عن الفواحش ، وتطهير الأرض من الشرك ، والظلم ، والبغي ومقاتلة دول البغي والشرك ، وحفظ حرمات المسلمين وقبل هذا كله حفظ كيان الدين نصا وروحا ، هي مهام من صميم الواجبات الإسلامية الدينية ، بل وهي ، ومن دون أدنى شك ، امتداد لمهام النبوة التي لا تزيد عن هذا إلا بالتبليغ ، وتلقي الوحي من رب السماوات . . . ونضيف إلى هذه الواجبات الشرعية واجبا في غاية الأهمية ، وهو الحفاظ على وحدة المسلمين من التفكك أيا كان المسوغ ، أو المسمى ، ذلك قوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) ( الشورى / 13 ) .

( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ( الأنعام / 135 ) ،

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( آل عمران / 103 ) .

فكيف إذا يقال أن اختلافهم رحمة ؟ ،
أو أنه لا يوجد مذهب صحيح أو غير متفق عليه ؟
أو أن كل المذاهب الفقهية على تناقضها وتباينها هي مذاهب صحيحة واجبة الاتباع ؟

إننا إذا تأملنا في كلمات الإمام علي ( ع ) وهو يذم اختلاف العلماء في الفتيا فيقول : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه . ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله .

ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم الله - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا ، وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول ( ص ) عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ( الأنعام / 38 ) . وفيه تبيان لكل شئ وذكر أن الكتاب

يصدق بعضه بعضا ، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( النساء / 82 ) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به ( 1 )

إن كلمات أمير أمير المؤمنين علي ( ع ) تحصر أسباب تعدد اجتهادات العلماء في المدارس الفقهية في عدة افتراضات ليس من بينها أن اختلافهم وتشتتهم رحمة ، كما يروي بعض الرواة عن رسول الله ( ص ) ، فهذه الأسباب الافتراضية لا تخرج عن عدة احتمالات :

أولها . . أن الله تبارك وتعالى أمر الناس بالاتفاق فعصوا . وهذا أصح الاحتمالات .



* ( هامش ) *
( 1 ) توضيح قول المسلمين الشيعة بأن الإمامة لطف من الله إن الإنسان مخلوق غريب الأطوار ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة ، وبواعث الخير من جهة أخرى ، ولقد خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشد إلى الصلاح ومواطن الخير ، ولصعوبة أن يهتدي الإنسان بنفسه لجميع طرق الخير والصلاح كان من لطف الله إرسال الأنبياء ( ع ) لهداية البشر ، ولأن محمدا ( ص ) هو خاتم الأنبياء كان لا بد من استمرار هذا الخط بإمامة علي وذريته ( عليهم السلام ) .


أنظر : عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر ، ص 72 وما بعدها . ط دار الإرشاد الإسلامي - بيروت 1409 ه‍ / 1988 م . ( * )



ثانيها . . أن الله سبحانه أمرهم بالاختلاف فأطاعوه . وهذا فرض مستحيل .

ثالثها أن الدين جاء من عند الله ناقصا ، وأن الناس أكملوه بآرائهم . وهذا أيضا فرض مستحيل .

أما الفرض الرابع والأخير . . أن الرسول الأكرم ( ص ) قد قصر في إبلاغ ما أوحي إليه من ربه . وهذا أيضا فرض مستحيل ، فلا يبقى أمامنا إلا الفرض الأول وهو الصحيح ، فالله تبارك وتعالى أمر المسلمين بالاتفاق ، فعصي أمر الله وشذ بعض الناس عن طاعة ربهم ومولاهم ، ولا بأس أن نقرر بداية أن المخالفة لأمر الله بدأت من قضية الإمامة وهي الأصل ، وامتدت لتشمل فروع الدين ، حتى وصلت الأمة إلى هذه الحالة المزرية التي نعيشها الآن .
__________________

أللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا لَمْ أَزَلْ أَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ سَلاَمَةِ بَدَنِي، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَحْدَثْتَ بِيْ مِنْ عِلَّة فِي جَسَـدِي. فَمَا أَدْرِي يَـا إلهِي، أَيُّ الْحَالَيْنِ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ، وَأَيُّ الْوَقْتَيْنِ أوْلَى بِالْحَمْدِ لَكَ، أَوَقْتُ الصِّحَةِ الَّتِي هَنَّـأْتَنِي فِيهَا طَيِّبَاتِ رِزْقِكَ، وَنَشَّطْتَنِي بِهَا لابْتِغاءِ مَرْضَاتِكَ وَفَضْلِكَ، وَقَوَّيْتَنِي مَعَهَا عَلَى مَـا وَفَّقْتَنِي لَهُ مِنْ طَـاعَتِـكَ أَمْ وَقْتُ الْعِلَّةِ الَّتِي مَحَّصْتَنِي بِهَا، وَالنِّعَمِ الَّتِي أَتْحَفْتَنِي بِهَا تَخْفِيفاً لِمَا ثَقُلَ بِهِ عَلَى ظَهري مِنَ الْخَطِيئاتِ وَتَطْهيراً لِمَا انْغَمَسْتُ فيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ، وَتَنْبِيهاً لِتَنَاوُلِ التَّوْبَةِ، وَتَذْكِيراً لِمَحْوِ الْحَوْبَةِ بِقَدِيمِ النِّعْمَةِ، وَفِي خِلاَلِ ذَلِكَ مَا كَتَبَ لِيَ الْكَاتِبَانِ مِنْ زَكِيِّ الاعْمَالِ، مَا لا قَلْبٌ فَكَّرَ فِيهِ، وَلا لِسَانٌ نَطَقَ بِهِ وَلاَ جَارِحَةٌ تَكَلَّفَتْهُ بَلْ إفْضَالاً مِنْكَ عَلَيَّ، وَإحْسَاناً مِنْ صَنِيعِـكَ إلَيَّ. أللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَبِّبْ إلَيّ مَـا رَضِيتَ لِي، وَيَسِّرْ لِي مَا أَحْلَلْتَ بِيْ، وَطَهِّرْنِي مِنْ دَنَسِ مَا أَسْلَفْتُ، وَامْحُ عَنِّي شَرَّ مَا قَـدَّمْتُ، وَأَوْجِدْنِي حَلاَوَةَ الْعَافِيَةِ، وَأَذِقْنِي بَرْدَ السَّلاَمَةِ وَاجْعَلْ مَخْرَجِي عَنْ عِلَّتِي إلَى عَفْوِكَ، وَمُتَحَوَّلِي عَنْ صَرْعَتِي إلَى تَجَاوُزِكَ، وَخَلاصِي مِنْ كَرْبِي إلَى رَوْحِكَ، وَسَلاَمَتِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ إلَى فَرَجِكَ، إنَّكَ الْمُتَفَضِّلُ بِالاِحْسَانِ، الْمُتَطَوِّلُ بِالامْتِنَانِ، الْوَهَّابُ الْكَرِيمُ، ذُو الْجَلاَلِ وَالاكْرَامِ.